هل تجعل الهمَّ همّا واحدا؟

1- المحمدون الأربعة وخبرهم العجيب:

محمد بن خزيمة، ومحمد بن جرير، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن نصر المروزي، جمعتهم الرحلة في طلب العلم بِمِصر، فجمعوا نفقاتِهم حتى فَنِيَت، وليس عندهم ما يَطْعَمُونه، فَلَمَّا اشْتَدَّ بهم الجوع اتفق رأيهم أن يَستَهِمُوا فمن خرجت القرعة في حقه سأل لأصحابه الطعام، وإلَّا هلكوا، فَرَشَّحَتِ القرعةُ ابن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي صلاة الاستخارة، فاندفع يصلي..

وإذا بِرِجَالِ السلطان أحمدَ بنِ قولون يطرقون الباب، فتقدم أميرهم قائلًا: أيكم محمد بن نصر؟ قيل: هو ذا، فدفع إليه صرة فيها خمسون دينارًا ذهبيًا، وَكَذا للثلاثة الباقين وقد سمَّاهم بأسمائهم، ثم قال: إن الأمير كان نائمًا فَرَأَى طيفًا يخاطبه: إن المحامد جياع، إن المُحَمَّدِينَ الأربعة في بلدك نيام، وأَرَّقَهُم الجوع !

فقام فزعًا يسأل عنكم حتى اهتدى إليكم، فدفع إليكم هذه الصُّرَر، ويقسم بالله عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم [الذهبي / سير أعلام النبلاء (14/271)].

 

2- والله لأجعلن الهم همًا واحدًا:

كتب معاوية رضي الله عنه إلى عبد الله بن عامر أن يُزَوِّجَ الرجل الصالح عامر بن قيس، ويخطب له من شاء من النساء، ونفقات الزواج من بيت المال، فلما أُخْبِرَ أَبَى العَرْضَ، وقال: أنتم أحوج إلى ذلك مني، ثم إنِّي في الخِطْبَة دائبٌ، فقال عبد الله بن عامر: إلى من؟ قال: إلى من يقبل مني التمرة والفلقة !

ثم أقبل إلى جلسائه وقال: إني سائلكم فأخبروني.. هل منكم أحد إلا لِمَالِهِ من قلبه شعبة؟ قالوا: اللهم نعم، قال: هل منكم أحد إلا لولده من قلبه شعبة؟ قالوا: اللهم نعم، قال: هل منكم من أحد إلا لأهله من قلبه شعبة؟ قالوا: اللهم نعم، قال: والذي نفسي بيده لأِن تَختلف الخناجر في جوارحي أحب إلي من أكون هكذا،

أَمَا وَاللهِ لَئِن استَطعْتَ أَن أَجْعَلَ الهَمَّ هَمًا وَاحِدًا لأَفْعَلَن! [ابن عساكر / تاريخ دمشق  (26/20).] قَال الحسنُ البَصري: ففعل وربِّ الكعبة حتى لحق بالله. [ابن المبارك / الزهد (1/294).]

 

3- أتته الدنيا راغمة فركلها:

          بايع الناسُ عمر بن عبد العزيز بِالخِلافة، وقام لِيُلْقِيَ أول خطابٍ له، فتعثر في طريقه إلى المنبر؛ رهبةً من ربِّ البرية، وشعورًا بِثِقَلِ المسئولية، فلمَّا اعتدل قال: إخواني.. لقد بُويعتُ بالخلافة على غير رغبةٍ مني، وإني قد خَلعْتُ ما في أعناقكم من بيعتى، فاختارُوا لأنفسكم ! فَصَاحَ الناسُ صيحةً باكية، وقالوا بصوتٍ واحد: قد اخترناك، ورضينا بك، فبكى وهو يقول: الله المستعان.. الله المستعان، فلما نزل من منبره وجد الحرسَ أعدوا خيلَ موكب الخلافة، فأبى ركوبها وسار على بغلته !

دخل عليه كعب القرظي العابد بعد أيام من خلافته، فَعَجِبَ من هيئته.. وجهٌ شاحبٌ، وبدنٌ نَاحِلٌ، كَأَنَّ جبال الدنيا سقطت عليه !، فقال يا عمر: والله لو دَخَلْتُ عليك في غير هذا المكان ما عرفتك، لقد رأيتك وأنت أبهى فتيان قريش، نَضِرَ البشرة.. لَيِّنَ العيش، فقام عمر باكيًا، وقال:

أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخَدَّان، لَكُنْتَ لِحَالِي من حالي أشدَّ عجبًا، وأعظم إنكارًا، فَبَكَى كَعبٌ، وبكى الحاضرون، حتى ضَجَّ مجلسه بالبكاء !

ومضت خلافته ثلاثين شهرًا، هِيَ وربي خيرٌ من ثلاثين قرنًا، ما إن بدأ حتى منَّ الله عليه بالمال والسعة، فقضى ديون الدولة كاملة، والمال في زيادة، فأنشأ عشرات المشاريع التنموية للبلاد، إلا أن المال زاد وفاض، فأرسل من ينادي عقب كل صلاة: أين الفقراء والمحتاجون؟ فقضى حوائجهم جميعًا، حتى انتهت المسألة والتسول من دولته، ثم أرسل من ينادي بقضاء الدَّيْنِ عن الغارمين، حتى لو كان المدين صاحب مسكن وأثاث، وخادم وفرس، فقضى ديون رعيته جميعًا، ونظر إلى بيت المال، فرآه عامرًا بالأموال، فكتب كتابًا يُقرأ على الناس: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها؛ فأعطوه من مال الله، ومن تزوج امرأة لا يقدر أن يسوق إليها مهرها؛ فأعطوه من مال الله! [علي الصلابي / عمر بن عبد العزيز (3/488) وما بعدها]

هو البحر من أيِّ النواحي أَتَيْتَه       فَلُجَّتُهُ المعروفُ والجودُ ساحله

ولو لم  يَكُ في كفه غير روحه       لجاد بها، فليتقِ اللـه سائلـه

 

إنَّ عمر لمَّا جعل الهموم همًا واحدًا كفاهُ الله همَّهُ وَهَمَّ رعيته، حتى سارت تجربته تدرس في النظم الاقتصادية المعاصرة، وهذه نتيجة حتمية، فما كذبت سنة الله قط، ولكن أكثر الناس لا يتذكرون !

 

الغلبة للأقوى:

إذا تشعبت الدنيا بِهُمومها في قلب الإنسان هَيمَنت عليه، ولما كان هَمُّ الآخرة لا يُزَاحِمُ غيره لِعِزِّهِ وشَرَفِهِ، فيبقى الإنسان أسيرًا لدنياه، والآخرةُ لا تتدخل، أما إن تَصَدَّى لأجرِ هَمِّ الآخرةِ، وجعل الإمامة له في القلب، فإنه يغلب غيره، فتخضع له باقي الهموم مُؤتمرة بأمره، فالدنيا والآخرة في القلب ككفتي ميزان، إذا رجحت واحدة خفَّتِ الأخرى..

ولهذا سكب الشوكاني كلمات ذهبية في فؤادك، علَّ دينك يهزمُ دنياك، فقال:

على المرء أن يُفَرِّغَ قلبَهُ لِيُصَادف الغيث مَحِلًا ينزلُ فيه، وهذا شرطٌ هَامٌ لتنزلات غيث الرحمة، وإن فعل ذلك صَنعَ الله له جميلًا، وَهَيَّأَ لهُ تدبيرًا، ورأى من العجائب ما يسعده في العاجلة والآجلة([1]) !

 

رُدَّ الأمرَ إلى صانعه:

          لمَّا كانت حاجات الإنسان وهمومه غير متناهية، كان لابد من الاستعانة بِمَن قدرته غير متناهية؛ إِذِ الإنسانُ عَاجِزٌ عن دفع حاجاته، أو تحصيلِ مَهَمَّاتِه، ولكن الْزَمْ هَمَّ الدِّين والآخرة، تأتك الآخرة رَاغبة، وأُنوفُ الدُّنيا رَاغمة، بل الأرزاق دومًا قائمة، تأتيك من كل حدبٍ وعينك نائمة، بلا غُمومٍ وَلا هُمومٍ، فَالنَّاسُ فِي مَساجِدهِم، واللهُ في قضاءِ حَوائجهم !

ورحم الله من قال: اعمل لِوَجهٍ واحدٍ يَكفِكَ الوجوه كلها، ومن صَفَا صُفّي له، ومن كدّر كُدِّر عليه، وإنما يُكال للعبد كما كال.. فمن طلب نفسه وضَيَّعَ دينه، أضاع الله نفسه، وحرمَهُ خدمةَ دينِهِ.

إذا جعلت الهم همًا واحدًا       نَعِمْتَ بَالاً وغُنِيتَ راشدًا

 

فائدة علمية

أثبتت التجارب أن الهم رقم [1] في حياة الإنسان، يسيطر على بقية الهموم !

وعليه:

دعني أستفزَّ همَّكَ؛ لِيَخرجَ إليَّ من أعماق قلبك، دعني أستنطقْ لسانك؛ لأدرك ما يدور بفؤادك..

لمن الإمامة في قلبك؟ لِدُنْياك أَم لِدِينِك؟

سؤال كاشف لتيسير الإجابة:

لو كنت مُدَرِّسًا، وخُيِّرتَ بين مدرستين: الأولى قريبةٌ ومريحةٌ، وأنت من سيتابع عملًا حاسوبيًا فيها، وبين مدرسةٍ بعيدة، براتبٍ أقلَّ، ونفقاتٍ أكثر، إلا أنك تجد أرضًا خصبة للدعوة إلى الله فيها، فأيهما تختار؟

إذا سرت في الطريق، ورأيت المصانع والشركات، ولاحظت قُصُورَهم في أداء الصلوات، فَعَقْلُكَ الآن بم يُفَكِّر؟ في هدايتهم، وآلية نصيحتهم؟ أم في قَدرِ أرباحهم، وتَمَنِّي المَسيرِ على مِنوالِهم؟

وأنت على فراشك: أَتَفْتَحُ صفحة الجيران والإخوان؟! فتبكى لأن فلانًا لا يصلي، وفلانًا غلبته شهوة النساء، وثالثٌ هجر جيرانه وأرحامه، ثم تُفَكِّرُ وتُدَبِّرُ، وتقوم لورقةٍ وقلم، فَتُعِدُّ الوسائل المفيدة، والآليات السديدة الرشيدة، فالأول بحاجة لِعِظَةٍ، والثاني لزيارة، والثالث لرسالة !

فإذا انتهيت فكرت في حاجة أهل بيتك، وترتيب قضاء الديون، ثم في رحلة ترفيهية لأهلك وَعَدْتَهُم بها منذ أمد بعيد، أَيَحْدُثُ هذا؟ أم تهجم مباشرة على فقه الادِّخار، وخطة إصلاح الدار، وآلية جلب الدولار والدينار، وتنام فجأة، فتباغتك شمس النهار؟! ثم تبدأ في يومك إلى أن تأتي ساعة النوم، وهكذا إلى أن تنام نومة طويلة، صبحها يوم القيامة !

 



([1]): الشوكاني / فيض القدير (3/343)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين