هل الكوارث الطبيعية ناتجة عن ذنوب الناس أم هي سنن كونية؟

نص الاستشارة :

هل الكوارث الطبيعية ناتجة عن ذنوب الناس أم هي سنن كونية؟

الاجابة

من الواجب أولا الإقرار بالتجاوز الذي قد يحدث من قبل بعض المتدينين عند مقارعة العلمانيين بالحجج في هذه المسألة، فبعضهم اعتاد عند نزول المصائب والكوارث على ترويع الناس وتقريعهم.

 

وإذا كان حمل عوام المسلمين على الأخذ بالعزائم "مقبولا" في عصر السلف، فإن الأمر يختلف في هذا العصر.

 

إزاء هذا "التشدد"، قد تُفهم دوافع تطرف الرأي الآخر وانغلاقه أيضاً على رأيه بالرغم من تبجيله للانفتاح، ولكن تفهمنا لدوافع الخطأ لا يعني بطبيعة الحال الإقرار عليه. وإذا كان من المفهوم أن يتبرم العلمانيون بتسطيح الرأي، فعلى أي أساس علمي يقوم رأيهم إذن؟

 

تقوم النظرية المادية منذ عصر نيوتن على أساس نفي البعد الغيبي عن كل الظواهر الطبيعية، ومن ثم فلا علاقة للكوارث البيئية بذنوب العباد لأنها ليست أكثر من نتائج طبيعية لسلسلة مقدمات تحدث باستمرار أثناء تفاعل بعض مكونات الطبيعة مع البعض الآخر. وقد يتعجب العلماني المادي من "القصور العقلي" لدى المتدين متهما إياه بالعجز عن فهم علاقة الأسباب بالنتائج، فمعظم الكوارث قابلة للرصد والتفسير، وربما للتنبؤ أيضاً وحتى الوقاية والمنع.

 

وعليه، يتساءل العلماني في دهشة: كيف يمكن لهذه الحوادث التي نرى أنها تجري في طبيعة صماء جامدة أن تُنسب إلى أعمال الناس؟ وكيف يحق لنا أن نفسر أحداث الطبيعة بتفسيرات دينية طالما كان لكل منهما عالمه الخاص، مما يؤدي بنا حسب رأيه إلى الإغراق في التفسير "الأسطوري"؟ ثم كيف تُنسب هذه الكوارث إلى ذنوب المؤمنين في بلد ما بينما يتنعم الكفار في مكان آخر؟

 

هذه باختصار تساؤلات العلمانيين المفعمة بالحيرة والدهشة، وحتى التقزز، وقد أصبح كثير من الإسلاميين الموسومين بأتباع تيار "الإسلام الحضاري" شركاء لهم في ذلك، وبدرجة مماثلة من التقزز أحيانا. أما الجواب فيمكن إجماله بما يلي:

 

1 ـ إن الإقرار مسبقاً بوجود خالق ومدبر وقيوم على هذا الكون، سيصل بنا إلى نصف الطريق، فإذا كان العلمانيون يقرون عقلاً وقلباً بوجود الله تعالى وبخلقه لهذا الكون وباستمرار قيامه على شؤونه، فمن السهل جداً أن يُنسب إليه تعالى التصرف في خلقه، وذلك على النحو الذي لا يرفض فيه العقل نسبة إرادة ما يحدث في الكون إلى الله تعالى، سواء من استمرار للحركات والتفاعلات المنظمة، مثل دوران الأرض أو ما يطرأ من كوارث غير منظمة وغير دورية كالزلازل. ويمكن للمتابع أن يدرك إقرار كثير من العلمانيين بوجود الله في سياق كلامهم، ما يعني إلزامهم بما ينشأ عنه.

 

2 ـ إن الإيمان بالله تعالى وبصحة الوحي والسنة، يلزم المؤمنين بالإقرار بأن لله سنناً كونية، فدلالة النصوص على ذلك لا جدال فيها، ولكن هذا الإيمان لا يعني بالضرورة أنها سنن لا يمكن خرقها، بل إن هذا الإيمان يُلزم العلمانيين في المقابل بالإقرار بأن الله قادر على خرق هذه السنن متى شاء ولأي سبب شاء، وهذا الإيمان يُلزمهم أيضاً بالتسليم عندما يقرؤون: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}.

 

3 ـ عندما يرفض العلمانيون نسبة الكوارث الطبيعية إلى ذنوب الناس وعدّها عقاباً إلهياً، فإن رفضهم لا يقوم على أكثر من النظر إلى الأسباب الطبيعية والعجز عن فهم أي سبب آخر، فقولنا بأن كارثة ما هي جند من جنود الله التي يرسلها للعقاب أو التذكير، لا يعني أن تكون هذه الكوارث غير قابلة للدراسة العلمية، بل لا يتعارض ذلك حتى مع إمكانية التنبؤ بحدوثها مسبقاً، فالأمر لا يعدو أن يكون شدة وقعت بعد رخاء، مما يدعو الإنسان إلى التأمل في حاله مع الناس ومع الله تعالى، فمعظم البشر -حتى المشككين بوجود الله- يلجؤون إلى الله لاشعوريا عندما يشعرون بالحاجة إليه، وهذه هي الحكمة الإلهية من الابتلاء الذي يتعرض له الناس، لذا كان الصالحون يستبشرون بالمرض دون أن يتمنوه، لعلمهم بأنه يقربهم إلى الله تعالى ويرقق قلوبهم ويذكرهم بضعفهم وبزوال الدنيا.

 

وعليه، فإننا نرفض قطعاً الوقوف عند التذكير بالذنوب والاقتصار على الوعظ والترويع والتقريع، بل نقرن هذا التوجه الروحاني بضرورة عدم إلجام العقل عن التفكر في سنن الكون ودراستها وإخضاعها للبحث التجريبي، وقد فرغ علماء الكلام المسلمون منذ مئات السنين من الجمع بين الإيمان والعقل، دون الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه العلماء التجريبيون في أوربا مع بزوغ "عصر التنوير"، وهو الخطأ الذي تم تصحيحه تجريبياً في النصف الأخير من القرن العشرين مع انتفاء العلية والسببية في عالم فيزياء الكم.

 

4 ـ يتفق العلمانيون على مقولة "عقلية" -وهي جدلية بامتياز وليست برهانية بحسب تصنيف ابن رشد- في سياق مناقشتهم لهذا الموضوع، وهي "إذا كانت ذنوب المسلمين في بلد ما هي السبب الكامن وراء كارثة حلت بهم، فإن سكان المدن الغارقة في اللهو مثل لاس فيغاس أولى منهم بالعذاب".

 

وهي مقولة يمكن ردها منطقيا إلى الصيغة التالية "إن (أ) تؤدي دائماً إلى (ب)"، وهذا أمر لم يقل به أحد من علماء الدين، فالقول بأن كارثة ما -سواء كانت فردية مثل المرض والفقر أو جماعية كالزلازل- هي رسالة إلهية إلى البشر لتذكيرهم بحقيقة الدنيا وتحذيرهم من مغبة الإسراف في المعاصي، فإن هذا القول لا يعني أن الله تعالى قد ألزم نفسه بإرسال هذه الرسائل إلى كل العصاة.

 

ومن العجيب أن يعتبر البعض أن نسبة الكوارث إلى معاصي سكان مدينة منكوبة هو إجرام في حقهم، وكأنهم يحكمون بذلك على سكانها بأنهم قد عُصموا عن الخطأ، وهذه الحجة الخطابية التي تتكرر كثيرا في المقالات السطحية المتداولة تكشف أيضا جهل صاحبها بما هو متفق عليه في الإسلام من أن شدة البلاء تزيد طرداً مع زيادة التقوى والقرب إلى الله وليس العكس كما يتوهم، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم "عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" [رواه الترمذي وقال حديث حسن]، وقال أيضا "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل" [رواه أحمد].

 

وعليه، فإن أقصى ما نقوله هو أن ما يتعرض له المسلمون من زلازل لا يعني الطعن في دينهم، بل هو تذكير لهم ولمن حولهم من المسلمين، فضلاً عن كونه خيراً اختاره الله لهم للموعظة قبل حلول موعد الحساب الذي لا عودة بعده، إذ تقول الآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42-44]، فالحكمة من البأس والضرر هي دفع الناس إلى التضرع واللجوء إلى الله.

 

وقد اعتاد المسلمون طوال تاريخهم -الذي لم تتأثر فيه عقولهم بمادية نيوتن وما بعده- على هذا التفسير الذي لا يتعارض فيه الدين مع العقل، إذ أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسندٍ حسن عن صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر أنها قالت {زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فخطب عمر الناس، فقال: أحدثتم، لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم}، أي أن الهزة الأرضية لم تقع في المدينة المنورة التي كان يعيش فيها خير القرون على مر التاريخ إلا بسبب ذنوب اقترفوها، وفقا لفهم عمر بن الخطاب.

 

كما وقعت هزة أرضية في عهد عمر بن عبد العزيز، فكتب على إثرها إلى أهل البلدان "إن هذه الرجفة شيء يعاتب الله به عباده، فمن استطاع أن يتصدق فليفعل؛ فإن الله يقول {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}".

 

5 ـ أما الدليل القطعي الذي أختتم بوضعه جليا واضحا بين أيدي المجادلين، فهو قوله تعالى {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون}، [الأعراف: 94- 95]، فهاتان الآيتان تقطعان بأن الله تعالى يبتلي الأمم على مر التاريخ، وأنه في كل عصر وبعد كل ابتلاء يبدل بالشدة رخاءً، فيأتي الجيل التالي ويقول "لقد مر آباؤنا بالرخاء حيناً وبالشدة حيناً آخر، وهذه من عادة الطبيعة ولا علاقة لها بعقاب الله"، وهكذا إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الذين من قبلهم، ثم يأتي الجيل التالي ليغفل عن الحقيقة دون أن يتعظ.

 

وأعتقد أن هاتين الآيتين -اللتين لم أر أحدا من المجادلين يذكرهما- كافيتين للبت في الأمر، فللّه الأمر من قبل ومن بعد، إن شاء عفى، وإن شاء أمهل، وإن شاء عاقب بما يشاء ولمن يشاء.

 

اللهم آتنا فهم كتابك، وجمّلنا بالأدب في حضرتك، ولا تجعل لشياطين الإنس سلطانا على قلوب المسلمين.


التعليقات