هل القتل أكبر الكبائر الإسلاميَّة بعد الكفر؟

القتل أكبر معصية إسلامية على الاطلاق، واستثنينا الكفر فقط ؛ فإنك إذا أردت أن تبالغ في عظم أيّ معصية لا تزيد على أن تشبهها بالقتل، وأما القتل فليس لنا معصية نشبههه بها ما دمنا مستثنين الكفر، ولأن المعاصي كلما كانت الواحدة منها أكبر فساداً في الأرض من غيرها كلما كانت أكبر كما أشرنا سابقاً، وأنت إذا تتبعت المعاصي معصية معصية لا تجد لواحدة منها فساداً يساوي فساد القتل أبداً، لأن الإنسان إذا مات ومُحي من الوجود ذهب كله ولم تبق ناحية من نواحيه، وليس لنا ذلك المعنى في أيِّ معصية، ولأنك إذا قتلت من لم يؤمن بعدُ حُلت بينه وبين الإيمان، وسجلت عليه الكفر بذلك القتل، وأنت إذا تأمَّلت المعاصي كلها لا تجد فيها واحدة تعقب هذا الأثر الذي إليه تنتهي الإهانة والآلام، ولو ترك ذلك الذي لم يؤمن لكان من المحتمل أنَّ يؤمن بعد كفره، لأن الحياة التي لا يبعد عليها أثر من الخير لا يزال متمتعاً بها، وكم أعرض عن الكفر كافر وترامى في أحضان الإيمان وأصبح في الوجود نوراً وهَّاجاً بعد أن كان ظلمة حالكة، وهذه الصورة أثر القتل فيها أشد من أثر الكفر في حياة صاحبه، ولأن القتل أثره الموت، والموت خراب الدنيا وقطع مدد الآخرة، وهذه الصورة لا يشبه القتل فيها حتى الكفر أيضاً، فإنَّ الدنيا ما عمرت بمثل الكفار، ولأن القتل يشبه الكفر في أمرين - كما قلنا في المقال السابق - شدة عذاب القتل وطول مدته طولاً يسوغ أن يطلق عليه الخلود، ولأن الجرأة على المعاصي تتبع قسوة القلب، فكلما كان المرء أقسى قلباً كان أجرأ على المعاصي، ولعله لا خلاف في أنَّ تلك الجرأة تنتهي إلى الجرأة على هدم مؤمن وإتلاف حياته وإراقة دمه، فيكون القاتل بين جماعة المؤمنين أقساهم قلباً، فيكون أبعدهم عن الرحمة الإلهية، فإن نصيب الإنسان من هذه الرحمة يكون على قدر ما عنده من الرحمة للعباد.

كثرته اليوم:

القتل الذي ما تقدَّم إشارة إلى بعض ما جاء فيه بين غِلظَه بين كبائر الإسلام - هان علينا معشر المسلمين اليوم ثم هان حتى صار كالكلمة يتحرك بها اللسان أو كالنظرة تصدر من الحيوان، ولو أردت أن تعرف قيمة هذه الإشارة فتفضَّل ومرَّ على قلم قيد الجنايات عندنا، أو فتناول يومياً الصحف السيارة، إنك إن فعلت هذا حكمت غير متردّد أنَّ جميع أنواع الحيوانات: الكلاب والخنازير والذئاب والثعالب والعقارب والثعابين وغيرها ليس فيها نوع بين أفراده من العداوة والاعتداء ما بين هذا النوع الإنساني، فإنك لا تمشي شرقاً ولا غرباً، ولا شمالاً ولا جنوباً إلا وتجدنا معلنين الحرب بعضنا على بعض، سواء كان ذلك بالسهل أو بالجبل بالبلاد أو بخارج البلاد، بالليل أو بالنهار، نعم تجد أينما ومتى سرت الرصاص يدوي والأجسام تتمزق، والصائحات تصيح، والنادبات تندب، وقلوب الرجال تغلي تطلب الثأر لا يهنأ لها طعام ولا شراب ولا منام حتى تصل من ذلك إلى مبتغاها، فتكون الحملة على القتلة من أهل القتلى أهولَ ما تراه العيون وتصوره القلوب، ويا ليت الانتقام يقف عند حدّ، بل يتمادى ويتمادى لأن كَلْب الثأر لا يتوقَّى أحداً يقابله، وألم سوط القتل ملتهب وأليم، فكلما تقادم عهده اشتدَّ ألمه وأوجع وقعه، وهذا الاعتداء الجديد من أهل القتلى الأوَل يقابَل بأهول منه من المعتدين الأُوَل، وهذا مستديم، وهذا مستديم، فنحن بذلك مسوقُون بأيدينا إلى هاوية الفناء والدمار في دُنيانا، وإلى هاوية الخلود في عذاب عظيم في أخرانا.

أسبابه المباشرة:

وهل يدري القارئ الكريم عن أيِّ سبب تكون جريمة القتل؟

أنا أذكرك هنا بعض الأسباب لتصل بذلك إلى كنه عقليتنا كما وصلت إلى كنه ديننا، فاسمع:

تتكلم مع أحدنا كلمة يفهم منها أنك تسيئه بها وقد لا تقصد بها إلا خيراً، فيقتلك؛ وتنظر إليه نظرة لا تعجبه، وقد تكون عادية عندك؛ فيقتلك، وتسلِّم عليه وأنت راكب إحدى رجليك على الأخرى لتعب عندك، فيقتلك، وتتزوج امرأة كان يحب أن يتزوجها وأنت لا تعلم، فيقتلك. ويذهب إليك لتأمر بنتك امرأته أن تبارح بيتك إلى بيته لتعاشره كعادتها بعد أن أسال دمها من الضرب وهشَّم عظمها وكاد يقتلها، فاذا أبيت عليه ما أراد قتلك.

وتشترى عيناً أو تستأجرها وكان هو يضمر أن يشتريها أو يستأجرها وقد لا تعلم أنت ما في نفسه، فيقتلك؛ وتستقبله فتقع عينه على وجهك وأنت عابس لأسباب عندك، فيقتلك.

ويحدثُ بينك وبين آخر سوء تفاهم وآخر يكرهك؛ فيقتل خصمك لتنحصر داهية القتل فيك، وعليك تتجه آثارها وبلاياها، ويُقتل له حبيب أو قريب فيتخيل أنك قاتله، فيقتلك، ولو سألته شبه دليل على ذلك لعجز العجز كله، وتعطي له قدراً من المال ليقتل فلاناً فيقتله، وذلك القدر من المال هو السبب في القتل، فيبيع جنَّة عرضها السموات والأرض، ويشتري ناراً ألمها عظيم مع الخلود فيها بذلك القدر من المال، وقد يكون ضئيلاً جداً، وعلى وجه الأرض اليوم أناس لا يحصون عدداً حرفتهم التي يستوردون بها أرزاقهم إراقة دماء المؤمنين، ويراك سمَوْتَ في دائرتك عليه فيهيج الحسد في قلبه، فيقتلك.

ويرى أولادك قد كثروا وجلُّوا، فتلتهب في جلده نار أحقاده عليك من أجلهم، فينتقم منك فيهم؛ فيقتلهم، ويراك خالياً في سفر أو في حضر ومعك قدر من المال، فيقتلك ليأخذ مالك، ويراك ماشياً مع عدوّ له فيفهم أنك صادقته وانضممت إليه في العداوة له؛ فيقتلك، ويحكم القاضي عليه بنفقة لأولاده أو لامرأته، فيقتل الأولاد أو الزوجة أو كليهما ليتخلص من تلك النفقة، ويسأل أباه أو أمه مالاً يصل به إلى شهواته، فاذا أبى أو أبت قتله أو قتلها، ويكون لك عليه ديْن فتطلبه أو يتوقع هو أن تطلبه، فيقتلك ليتخلص منه، ويكون له عليك ديْن فيطلبه منك، فإذا استمهلته قليلاً هاج وقتلك، وكثيراً ما كان القرش الواحد أو نصفه سبباً في قتل مؤمن أو مؤمنين، ويدخل بيتك ليسرق مالك، فاذا وقفت أمامه تمنع مالك قتلك، وتفضِّل بعض بنيك على بعضهم في حب أو إحسان، فيقتلك المفضول أو المحروم لو كنت حرمته. وقد يكون لتفضيلك وجهٌ وجيه، ويرى والده قد طال أجله فقيراً عالة عليه، فيقتله؛ ليستريح من النفقة عليه، ويرى والده الغني قد طال أجله وهو يريد أن يرثه، فيقتله تعجلاً لذلك الميراث... وما إلى ذلك من الأسباب التي أكِلُ إليك تقديرها والحكم علينا ديناً وعقلاً من أجلها.

لا يظن القارئ أني أتخيَّل هذه الأسباب تخيُّلاً ثم أحكيها عن تخيُّلي، لا تظن هذا وتأكد أني أحكيها عن الواقع المشاهَد لي ولغيري من المنتبهين، وليتك تراجع أخبار الصحف لتتأكد ما أقول.

أمَّا قتلنا أنفسَنا - وهو أفحش وأشنع من قتل بعضنا بعضاً- فقد فشا بيننا ثم فشا لحدٍّ أزعج العقلاء منا وجعلهم ينتفضون رعباً من هذا الخطر الذي يشتد يوماً فيوماً، حتى أصبحنا مهدَّدين منه وحده بفناء قريب، فإنك تسمع أنَّ فلاناً انتحر، فتسأل: لماذا؟ فيقال لك: إنَّ معشوقته هجرته، وقد يتعدد القتل إذا خاللتْ حبيبتُه سواه، فإنه يقتلها ويقتل حبيبها الجديد، ثم يقتل نفسه، والانتحار بهذا السبب - سبب الحب - يزداد يوماً فيوماً مع كثرته، لأن هذا الحب أصبح من الضروريات للفتيان والفتيات في هذا العصر، وتسمع أن آخر انتحر، فتسأل: لماذا؟ فيقال لك: إنه كان ذا مال كثير وأصبح فقيراً، والفقر بعد الغنى وعكسه تقلبات دنيويَّة تحدث في هذه الحياة كل يوم، فالانتحار بسببها أيضاً كثير، ويقرع أذنك أنَّ زيداً قتل نفسه فتسأل عن السبب فتُفاد بأنه تلميذ في المدارس وسقط في الامتحان، وهذا سبب في غاية الخطورة، فإن تلاميذ المدارس كثيرون جداً، والساقطين منهم كثيرون أيضاً، ويذاع بين الناس أن عمراً أهلك نفسه فتستفهم وبأيِّ سبب أهلكها؟ فيكون الجواب: أن المرض اشتدَّ عليه أو أزمن معه ففعل ما فعل، وهل يدري القارئ بأيِّ شيء يقتل نفسه ذلك المنتحر؟ يربط حبلاً متيناً في سقف يضعه في عنقه وهو واقف على نحو كرسي، ثم يزيل برجله ذلك المرتفع الذي هو واقف عليه، وإذا هو مشنقة تجهز عليه خنقاً في دقائق، أو يصب على جسمه وعلى ثيابه قدراً من زيت البترول ثم يدني منها عوداً من الثقاب، وإذا هو كومٌ من الرماد، أو يقف على شاهق من الأرض ثم يلقي نفسه إلى أسفل، فإذا وصل إلى الأرض كان بدنه أشلاء مبعثرة، وإذا هو قد ذهب، أو يمشي على رجليه متبختراً حتى يصل إلى البحر، فإذا رآه قذف بنفسه فيه وإذا هو قد ابتلعه ابتلاعاً، أو يحضر مادة سامة يتناولها بيده شرباً أو ابتلاعاً، فإذا وصلت إلى أمعائه قطعتها تقطيعاً وإذا هو كأمس الدابر.

سببه الحقيقي:

ولعلك تشتاق إلى معرفة السبب الحقيقي الذي من أجله كثر القتل بنوعيه في هذا العصر دون ما تقدَّمه من العصور، والجواب سهل يسير، إذا عرفته استرحت ثم استرحت، هو: الجهل بدين الله تعالى، فإنَّ من تقدَّمونا كان لهم بعلم الدين عناية، فعرفوا المحرّمات خصوصاً القتل، وعرفوا آثارها ففروا منها فراراً، ومن لا يفر من جهنَّم؟ وأعرضنا نحن عن الدين فجهلنا ما يترتَّب على اقتحام المحرّمات فاقتحمناها – بما فيها القتل – غير حاسبين لعواقبها حساباً، وهكذا يفعل الجهل، يجعل صاحبه يلقي بنفسه في جهنَّم وهو لا يدري ما يفعل.

والداهية الكبرى والبلاء الأعلم أنَّ القاتل إذا ظفر بمن يريد قتله تعتريه من الفرح نشوة تتركه يرقص رقصاً، فإذا انتهى منه كان في عيد هو أكبر الأعياد عنده، وبهذا ينتقل من صفوف العاصين إلى صفوف الكافرين، لأنَّ استباحة القتل كفر، فما بالك بالفرح به، فما بالك بالفرح الذي لا يسامى؟ وقد يكون هذا الفرح ليس بكفر إن كان صادراً من صاحبه لما أنه وصل إلى هوى، فلوصوله إلى ذلك الهوى يفرح وهو جازم أنه اقتحم عظيماً.

الدواء المستأصل له:

والدواء الوحيد الذي يقتلع هذا الداء من جذوره هو تعلم الوحي الإلهي والعناية بالعمل به العنايةَ التي تليق به، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين