هل العمل الصالح في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد العيني؟

عن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِه.ِ قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) أخرجه البخاري في صحيحه.

قوله في هذه: يعني عشر ذي الحجة.

ويستدل بذلك كثير من الخطباء والوعاظ على أن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله، دون تفصيل.

والصواب: أن المراد بالجهاد في هذا الحديث جهاد النفل(التطوع) وليس الجهاد الفرض المتحتم، نتيجة مداهمة العدو أو احتلاله أرضا للمسلمين، أو النفير العام من ولي الأمر.

ونظائر ذلك ما جاء من أحاديث- فيها تفضيل عمل صالح على الجهاد، مثل بر الوالدين، والذكر- فالمراد بذلك أيضا جهاد النفل(التطوع).

وبذلك يتم التوفيق بين النصوص، وفهمها بطريقة متكاملة.

ذلك أن الجهاد الفرض المتحتم لا يعدله شيء بعد فريضة الصلاة، فهو وسيلة حفظ الدين والدنيا، وهيبة المسلمين وردع عدوهم، وفيه مخاطرة بالنفس والمال.

وقد جاء ذلك-أن الجهاد مقدم على سائر الأعمال- صريحا في عدد من الأحاديث، منها:

في صحيح البخاري:2785- عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟ قَالَ لاَ أَجِدُهُ، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ).

قال الحافظ: وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي أن لا يعدل الجهاد شيء من الأعمال.

وفي صحيح البخاري أيضا:

2783- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا).

فواضح من هذا الحديث أنه بعد انقضاء الهجرة فإن أفضل العمل هو الجهاد، وأنه في حال النفير فلا يقدم على الجهاد شيء، ف"الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه".

ومما جاء صريحاً في تقديم الجهاد على سائر الأعمال:

2786- في صحيح البخاري عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ. قَالُوا ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ).

و فيه أيضاً:

2787- عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ)

وهذا يقودنا إلى التعليق على الحديث الذي فيه تقديم الصلاة وبر الوالدين على الجهاد:

ففي صحيح البخاري:

1519- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ).

فجعل الجهاد بعد الإيمان (والصلاة داخلة في الإيمان)، والمقصود هنا جهاد الفريضة.

وفي حديث آخر قدم الصلاة وبر الوالدين على الجهاد، وأراد به جهاد النفل:

ففي صحيح البخاري:

2782- عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا. قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

وسبب تقديم الصلاة وبر الوالدين على جهاد النفل، هو:

ما قاله العلماء: " إن تقديم الصلاة على الجهاد والبر لكونها لازمة للمكلف في كل أحيانه، وتقديم البر على الجهاد لتوقفه على إذن الأبوين."

معلوم أن الجهاد الموقوف على إذن الأبوين هو جهاد النفل(التطوع)، أما جهاد الفرض عند مداهمة العدو، أو استنفار الإمام فهو حتم لازم لا يعدله عمل، فهو وسيلة حفظ الدين والبلاد والعباد.

وسبب علو شأن هذه الثلاث (الصلاة، وبر الوالدين، والجهاد).

يقول الطبري: إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤنتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع.

ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل براً.

ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عدواتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك، فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع." (فتح الباري 6/4).

وهكذا الحديث الذي أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى. قال: ذكر الله".

فهذا ايضا يُقصد به الجهاد النافلة (التطوع) بخلاف الجهاد الفرض.

وبهذا يحسن فهم الأحاديث بتدبرها سوية، مع استحضار أهمية الجهاد في الإسلام، ومقاصد الشريعة، وما كان نفعه ذاتيا، وما كان نفعه متعدياً.

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين