هلِ العربيّة تحتضر؟

كتبَ أحدُ الإخوة عن اللغة العربيّة مما يكتبه غيرُه من العرب وغير العرب، وهم، كما يتّضح من أحكامهم الموصولة بخطرات نفوسهم، من غير العارفين بالعربية وأسرارها وأصولها ومكانتها بين اللغات.

وهذا الذي كتبه الأخ ويكتبونه، في محاولة الإساءة إليها، عن قصد وغير قصد، قديمٌ قديمٌ، وكثيرٌ كثيرٌ، قد سبقهم فيه قائلون كثيرٌ، غابوا وغابت أقوالهم، ثم بقيتِ العربية.

وقد طرح الأخ الفاضل عددًا من مكرور العبارات في شأن هذه اللغة الشريفة، وأحببتُ، لمحبتي به وبالعربية، أن أوضّح النّقاط التي أشار لها على صورة الإجمال لا التّفصيل؛ إذِ التفصيل موصول بالأسماء التي سأشير إليها سريعًا خاصة في علم الدراسات اللسانية التقابلية التي أثبتت أنّ اللغة العربيّة لغة قُدمى قد حافظت، دون غيرها، على أسباب حياتها، ومتطلبات بقائها، فظلّت لغةً صالحة للعلم والمعرفة والاقتصاد والآداب، وخلدت في الوقتْ الذي ماتت فيه لغاتٌ كثيرة كالسريانية والعبرية، وغابت فيه أصولٌ كاللاتينية، فما زال الطفل العربيّ وغير العربيّ ابن السنوات الثلاث يحفظ كتاب العربية الأعظم، وفي الوقت ذاته ما زال هناك علماء أجانبُ لغويون من لغات أخرى كالانكليزية لا يستطيعون قراءة نصوص شكسبير من القرن الخامس عشر، وهذا، وأمثلته، مما تُبين عن مكانة اللغة العربيّة واقتدارها= كثير كثير.

وفيما يلي نصّ الأخ الفاضل، وسأمرّ عليه ومضًّا، ألقي إضاءات وإشارات، يمكن بعدها للقارىء التوسع ما أراد، وبيانات المعرفة في النصّ تدلّه وترشده وتأخذ بيده.

يقول:

" كيف لنا أن نتخيل أن اللغة العربية لا زالت نابضة وحية , ومعظم المتكلمين بها يعانون من فجوة مع العالم المتحضر , وتعاني هي بدورها من فجوة مع العلم , اللغة بنت الفكر , فلا يمكن لعقل راكد أن ينتج لغة حية , ولا يمكن للغة أن تدب فيها أوصال الحياة وهي لا زالت أسيرة الماضي وتبعد سنين ضوئية عن لغة العلم والمعرفة , اللغة العربية تحتضر بينما لغات العالم المتحضر تعيد خلق نفسها من جديد".

‫‬وأقول:

إنّ من البدهيّات أنّ الحكمَ على الشيء فرعٌ عن تصوّره، ولا يمكن لنا، من ثمَّ، أن نبذلَ الأحكام في مسألة مّا دون أن نتحرّى أصولها، والحديث في اللغات حديثُ علمٍ لا حديثُ خواطرَ، والفرقُ بين العلمِ الموصول بالحقائق، والخاطرة الموصولة بالأهواء، هو الفرق بين الحقيقة والهوى.

خلاصة مروري في الحديث ههنا عن عالمية العربية كلغة علم وثقافة حديثٌ مُستلٌّ ممن درس العربيّة على علمائها، والانكليزية على أهلها، كالعالم الشّهير ألكسندر وبرفيسور ريفرز، وممن درّس هاتين اللغتين في أعرق الجامعات كويلز البريطانية، وجورج تاون ومعهد ماسثشوتس للتقنية، ونورثن أيوا، وغيرها من مراكز علوم اللغة الأمريكية، وكذلك ممن ألمَّ باللغات الأوربيّة الأساسيّة كالفرنسيّة والألمانيّة وبعض اللغات الأفريقيّة، ودرّسها في الجامعات العربيّة والآسيوية والإفريقيّة= هذه التّجربة العميقة أعطتْ هؤلاء معرفةً تفصيلية وتفضيلية بدقائق تلك اللغات وأحوالها وأسرارها وخباياها.

وإليك مناقشة ما ذُكر أعلاه ...

[ وتعاني هي بدورها من فجوة مع العلم]=

خصائص اللغة العربيّة على المستوى الصوتي والكتابي والصرفي والمعجمي والدلالي أهلّها، بحسب الدراسات المتكاثرة التي أجراها علماء الغرب، لا العرب وحدهم= لتكون اللغة الإنسانيّة الأولى، ولتكون الكنزَ الذي يبحث عنه علماء اللغة المحدثون، لصياغة اللغة الكونيّة التي يحتاجها عصرُ العولمة، وهذا، بحسب دراساتهم في أحدث الدراسات اللسانية، سيكون قريبًا جدًّا، وحينذاك سيدرك أبناء العربيّة مكانة لغتهم بين لغات العالم، وبأنها اللغة الأقدر على استيعاب أدّق العلوم ونقلها وتأريخها ومعالجتها.

[كيف لنا أن نتخيل أن اللغة العربية لا زالت نابضة وحية]=

هذه العبارة من جملة ركامِ الافتراءات الزّائفة التي تُكال للعربيّة عن قصدٍ تارةٍ، وعن جهلٍ تارة أخرى، وهي افتراءات تستمدُّ أصولها، عند من يقصدها، من نصوص:" العهد القديم"، وقد تجسّد ذلك بوضوح في حركة المستشرقين الذين كان معظمهم من القساوسة الذين ما فتأوا يتجاوزون كلّ حدود الذّوق والمنطق في التّهجّم على اللغة العربيّة، ووصمها بالتخلّف والتَّعقيد والصعوبة. ولن أزيد في هذه الفكرة لأنّ التفصيلات فيها قد فرّع فيها كثير من أهل التأريخ، وأكتفي ههنا بالتذكير بأنّ من نتاج التحيّز الذي انتهجته السياسات الاستعمارية المنظمة على المنطقة العربية ضدّ اللغة العربية= أن جُعلتِ اللغة الأجنبية لغةَ التعليم والمعاملات الرّسميّة وأن تربّى جيلٌ من أبناء أمّتنا في كنف هذا المستعمر، فتشربوا فكره، وتقمّصوا روحه، وحملوا لواءَه، وباشروا مهامه المشبوهة، وزعموا أنّها لغة قاصرة وعاجزة عن الوفاء بمتطلبات العصر والعلم والتقنية، وبتعبير الأخ الفاضل [ وتعاني هي بدورها من فجوة مع العلم]، وهذا بلاء منتشر لم يكن أوّل القائلين فيه هذا الأخ ولن يكون الآخر.

[ولا يمكن للغة أن تدب فيها أوصال الحياة وهي لا زالت أسيرة الماضي وتبعد سنين ضوئية عن لغة العلم والمعرفة]=

لو اطلع المطّلع على الدّراسات المعمقة في الأصول النحوية والصرفية في اللغات اللاتينية، والدراسات المقارنة في اللغات الهندوأوربيّة، كدراسات جاكوبي وإدوارد أدلوف اللغوي الألماني، وراسمي راسك الدّنماركيّ، وهنري أسويت، وغيرهم، وهي دراسات مشهورة= ستجد أنّ النظام اللغوي العربيّ نظامٌ أصيل يقوم على مجموعة من الأبواب الثابتة، والقواعد الرّاسخة الأصيلة من بُنيّات اللغة، وهذه القواعد الثابتة هي ما يُشير له المحدثون بالمستوى ( السّكوني) الذي يمثّل أبنية اللغة النموذجية وتواضعاتها الاجتماعية، وقد وجدوا أن العربية تعطي للمتكلم الفرصة كاملةً لإمكانية التعبير في ظل تنوعات سياقية داخل النصّ وخارجه، وهذا المستوى الحركي في اللغة العربيّة يجعلها لغة منفتحة على العلم والمعرفة لما فيها من قدرة خارقة على التوسع في المعاني بما لا تجد له مثيلًا في أنظمة اللغات الأخرى المحكومة في نظُم وحداتها بمبدأ الرّتبة فقط، الأمر الذي يحدُّ من انفتاحها، ويقلّل من هامش الحرية للتعبير فيها عن الأغراض الذهنية والنفسية والمعنويّة والجمالية، ولو نظرتَ قدر التناقض الفاضح بين المصطلحات النحوية ومدلولاتها في اللغة الانكليزية مثلًا لفهمت لمَ تعزفُ كثير من المدارس في انكلترا وأمريكا عن تدريس اللغة الانكليزية لأبنائها فيها، والأمثلة على هذا كثيرة ولك أن تدرس ظاهرة التطابق بين العربية والانكليزية مثلًا لتعرف من هي اللغة الأسيرة؟ ولتعرف من هي اللغة التي تدبُّ في أصولها الحياة؟

[ اللغة العربية تحتضر بينما لغات العالم المتحضر تعيد خلق نفسها من جديد]=

هل العربيّة تحتضر؟

هذا من كلام الإنشاء الذي ما زال أعداء العربيّة يكررونه من قرون، والدّراسات اللسانية العالمية التي تقوم في جامعات العالم الغربيّ منطلقة من نظريات علم اللغة الحديث= تُجمع على أنّ اللغة العربيّة بسماتها المميزة، وبنياتها القياسيّة، وإمكاناتها الصوتية الهائلة= يؤهلّها لأن تكونَ لغةً مشتركةً للعالم أجمع، لغةً تكفيهم مؤونة البحث عن لغةٍ اصطناعية أثبتتِ التّجاربُ استحالةَ نجاحِها، وأنّها لغةٌ أظهرت قدراتُها الفائقةُ إمكاناتِها المميزةَ لاستيعاب مطلوبات العصر، والتعبير عن إبداعات الفكر الإنساني، بدقّةٍ ووضوح لا نظير لهما في اللغات الأخرى، وبأنّها لغةٌ يمكن استخدام التقنيات المعاصرة في تدوينها ومعالجة نصوصها آليًا، مما يُسهم في نشرها وتيسير تعلّمها، وجعلها اللغة العالمية الأولى.

وخاتمة...

مما سبق الإشارة إليه نفيء إلى فكرة منطقية تقول: لو كان العيبُ في العربية لما عاشتْ هي، وماتت مئات اللغات.

ولنا أن نقول بكلّ ثقة:

إنّ اللغة العربيّةَ باقيةٌ بسماتها التي فيها، وبخصائصها التي تؤهّلها لتكون لغةَ المعرفة والأدب، لتكون لغةً الإنسانية جمعاء، وهذا ليس من تعصّبنا لها، ولو أن تعصبَّنا لها واجبٌ ومبرّر، بل لأنّ الغربيين، بدراساتهم العلمية= هم من أثبتوا عالميةَ اللغة العربية واقتدارَها، وهم من تنبؤوا لها بأنها ستسود قريبًا لغاتِ العالم كلّه.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين