هل الاحتفال بالمولد النبوي بدعة عبيدية؟!!

إن عمل موالد النبي صلى الله عليه وسلم مسألة وقع فيها خلافٌ فقهي بين علماء أهل السنة والجماعة، وانقسموا فيها إلى فريقين: مبيح مشجع، ومانع حاظر.

هذا، وإن القول بالمنع قول فقهيٌّ معتبر قاله بعضُ أهل العلم المتقدمين؛ كابن تيمية والفاكهاني والشاطبي وعدد من المالكية جرياً على أصولهم، ولا تنبغي مصادرة رأيهم ولا رأي من يقلدهم. كما أنه لا ينبغي لمن يتبعون هذا الرأيَ بالمنع أن ينسفوا ويهدروا الرأي المقابل المبيح المشجع، كيفَ وهو رأي الجماهيرمن علماء اهل السنة والجماعة؟؟ من أمثال الحافظ ابن دحية، والمقرئ ابن الجزري، والحافظ العراقي، والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ السخاوي، والحافظ السيوطي... إلى آخر قائمة تطول عن القصر، وتصعب على الحصر!

هذا، وإنه ما فتئ منكرو إقامة احتفالات مولد النبي صلى الله عليه وسلم يحتجون لإنكارهم بحُجج مختلفة؛ منها أنّ عمل المولد بدعة من بدع العُبيديين (الفاطميين) من الرافضة الباطنية.

والجواب على الاحتجاج غير الصحيح هو القول:

نعم... أول من عمل مولدَ النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق هم العبيديون، ولكنهم عملوه في جملة مواسم كثيرة جداً؛ كما قال المقريزي في «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» (2/ 436): 

ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم.

وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي:

موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات». انتهى.

والسؤال: لو كان أهل السنة يقلدون العبيديِّـين فلماذا خصُّوا مولدَ النبي صلى الله عليه وسلم من تلك المواسم الكثيرة؟

والجواب: إن نسبة علماء أهل السنة العظام، والجبال الأعلام؛ إلى تقليد العبيدين فريةٌ قرناء؛ ينفيها إجماعُهم على نسبة عمل المولد الشريف إلى السلطان الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين ابن محمد التركماني المتوفى سنة (630هـ)؛ كما تفيض بذلك كتب التواريخ والفقه مُستحسِنة مُثنيةً.

قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (17/ 205):

وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالا هائلا. وكان مع ذلك شهماً شجاعاً بطلاً، عاقلاً عالماً عادلاً رحمه الله تعالى. وقد صنف الشيخ أبو الخطاب بن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه :«التنوير في مولد السراج المنير»، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصرا مدينة عكا، وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة. قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه مد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس شوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى. قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم، ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم. وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما». انتهى.

أقول:الناظر في كلام المقريزي السابق يرى أن في تلك المواسم العبيدية: 

1- موسم عيد الفطر، 2- وموسم عيد النحر، 3- وسماط رمضان، 4- ومنها ليلة الختم (أي: ليلة ختم القرآن في تراويح رمضان)

ولنقف عند هذا الموسم الأخير قليلاً؛ لنتذكر أننا جميعاً نرى المُنكرين على إقامة المولد يعتنون في مساجدهم ـ ومنها الحرمان الشريفان ـ بليلة ختم القرآن في تراويح رمضان، ويكثُر حضورُ الناس لها... 

فهل فعلُهم الموجود في الحرمين الشريفين بدعة عبيدية هو الآخَــر؟

وهل الاحتفالاتُ والتوسع في المباحات وإطعام الطعام في العيدَين ـ زيادة على صلاة العيد وصدقة الفطر والأضحية ـ بدعةٌ عبيدية كذلك؟

وهل إطعامُ الناس في رمضان فيما يُسمّى «موائد الرحمن» بدعةٌ عبيدية مُضاهية لـموسم «سماط رمضان» عند العبيدين؟

والجواب: «كلا» بلا ريب، لا في تلك الأفعال الحسنة، ولا في عمل الموالد المستحسنة بشرط خلوها من منكرات شرعية يأتيها العوام والجهلة؛ مما نص على إنكاره العلماء.

إن مجرد فعل غير أهل السنة ـ بل غير المسلمين ـ لشيءٍ لا يعني عدم مشروعيته بالضرورة، إلا أن يكون شيئاًَ من خصائصهم وخصائص ديانتهم

فلقد اعتنى النبي صلى اله عليه وسلم بيوم عاشوراء واهتم به، ولم يعبأ بأنه يوم كانت تصومه اليهود، بل بادر إلى صيامه وأمر به... فهل هو تشبُّه مذموم باليهود؟

وها هم الشيعة الرافضة يعتنون بالصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم، بل صار شعاراً لهم، فهل نترك الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم لأجل فعلهم له؟

لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين من حديث ابن عباس ـ: أنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء.

وعليه فلا تضرنا ـ معاشر أهل السنة ـ موافقةُ العبيديين في الاهتمام بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ـ على افتراض ذلك والتسليم به ـ ما دامت تتحقق في هذا الاهتمام مصالحُ ومعانٍ شرعية معتبرة؛ كالتي رآها واعتبرها وأقرّ تحصيلها جماهيرُ علماء أهل السنة من عصر الملك المعظم مظفر الدين ـ رحمه الله تعالى ـ إلى هذا اليوم.

والله تعالى أعلَم

وصلى الله على عبده ونبيه سيدنا محمدٍ وسلَّم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين