لا يستطيع أحد أن ينكر أن الأفراد يتفاوتون في أقدارهم ، فمنهم الرفيع ، ومنهم الوضيع ومنهم الشريف ، ومنهم الخسيس ، ومنهم الوجيه ، ومنهم الخامل .
وكذلك لا خلاف في أن احترام الفرد ومعاملته تكون على حسب قدره عند الناس، ولذلك نرى بعض الأفراد إذا مشى التف الناس حوله يتشرفون بالنسبة إليه ، وإذا جلس جلسوا بين يديه بغاية الأدب والوقار ، يريدون أن يُروا في ناديه لتنظر إليهم العيون نظر اكبار وإجلال ، وكثيراً ما تسمع من ألسنة الكثير أنهم يمشون إلى فلان العظيم بصلة القرابة ، أو الصداقة أو صداقة الصداقة أو المصاهرة ، يصرحون بذلك ليكون لهم الفخر معرفة ذلك العظيم ، وبينما نرى نيران الاعتداءات في التهاب - ترى هذا العظيم في أمن تام من أن ينزل به أي اعتداء لا هو ولا بيته ، ولا كل ماله به صلة ، بل ولا كل من يتصل به ، يكرمهم الأشقياء من أجله لرغبة فيه أو رهبة منه ، ذلك شيء معروف لا يحتاج لبرهان يثبته .
هذا حال بعض الأفراد ، وهناك أفراد آخرون لا يشعر بهم أحد إن ذهبوا أو جاءوا ، ولا يلتفت أحد لحركاتهم لأنهم لا قيمة لهم ، ولا يتهيب عادٍ أن يغير على أموالهم أو أعراضهم أو دمائهم لضعفهم وعدم الناصر لهم ، إلى هذا الحد يتفاوت أفراد هذا النوع الإنساني من هذه الناحية التي ذكرناها .
وإني أرجو أن يفهم القارئ أن الأمم في ذلك كالأفراد تماماً ؛ فمن الأمم أمة في الذروة من الاحترام بين الأمم ، تقول الكلمة فتدوي كلمتها في الدنيا ، تنحني لها الرءوس إذا صدرت ، وتعمل بمقتضاها دون أدنى تلكؤ، ويكتفي لاحترام أذل الخلق كل الاحترام - أن يقول إني في حماية دولة كذا ، ومن الأمم أمة لايسوغ لها مركزها أن تتكلم كلمة ، ولو تكلمت كان كلامها موضع ضحك وسخرية من الأمم الأخرى ، هذا على أقل تقدير، وقد يكون كلامها ينبوع بلية من أشد البلايا لها ، وقد يكون السبب لقتلها شر قتلة ومحوها من الوجود ،
قد تقول : كيف تموت أمة والأمة عدد عظيم من الأفراد يتوالد كلما مات جيل منه خلفه جيل آخر كسائر أفراد الأمم ؟
فأقول : أن موتها ليس معناه أن أفرادها أو أعقاب أفرادها تموت ، وإنما يصل بها المرض والضعف إلى درجة لا تستطيع معها حفظ كيانها ولا الدفاع عن شخصيتها التي تتألف من لغتها ودينها وعاداتها ، فتُغير عليها أمَّة من الأمم القوية فتحول كل ما هي عليه إلى ما تريد هذه الغيرة من لغة وعادة ودين ، وحينئذ تصبح وحركاتها وسكناتها لاباختيارها هي بل بأختيار الأمَّة القوية التي قضت على شخصيتها ، وإذن من رآها لا يتردد في أن أفرادها ليسوا أفراد تلك الأمَّة الذاهبة ، بل يوقن اليقين كله أنهم من أفراد هذه الأمَّة العادية لما يرى من أئتمارهم بأوامرها وانتهائهم بنواهيها ، هذا معنى موت الأمم ، ولو فهمت قولنا السابق إن الأمم كالأفراد ما سألت هذا السؤال ، فإنك تعلم أن الفرد يكون صحيحاً ويكون مريضاً ويطرأ عليه الموت ، وقد يكون قصير العمر وقد يكون طويله ، إن الأمر هكذا بلا فارق ، وقد عرفت معنى موت الأمم فاحفظه ، وإن شئت فاقرأ قوله تعالى : {ولكل أمة أجل} .
ولو راجعت التاريخ لحدثك عن أمم يكذب من يحصرها، ربما كانت إحداها تقول الكلمة فتقوم بها الدنيا وتقعد ، ومع ذلك لانسمع اليوم باسمها بل وقد لايعرفها التاريخ
نحن نحدثك بهذا لنصل بك إلى الكلام عن هذه الأمَّة المحمدية ، ونرجو أن نصل بك من ذلك إلى مبلغ ما هي عليه من المرض - إسلامية وغيرها - وتذكر تلك الأسباب التي أفضت بها إلى ذلك بكلمات تنشر إن شاء الله وتقرؤها ، فانتظر . وإن غدا لناظره قريب ، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول