هذه قريتي يا عمر!

يا عمر! يا مفخرة لداخ وعزة الجبال! عرفنا فضلك، فندوة العلماء تعتز بك، وأبناؤها يفتخرون بك، وقد اعترف بنبوغك شيخ الندويين ومؤلف (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) إذ أكرمك بإجازة التسليك والإرشاد في الطريقة، وتلك مكرمة تميزت بها بين زملائك.

تخرجت من ندوة العلماء ثم عدت إلى بلدتك معلما وداعيا، فنشرت بها العلم، وأحييت السنن، وأمت البدع، وأصلحت شؤون أبناء جنسك، ولك أياد بيضاء على وطنك وسوابق حسناء.

كنت لي زميلا في الدراسة وفي السكن، ونعم الزميل كنت! ما أنكرت تقدمك ولا استربت سبقك.

وأراك الآن متنكرا، تسأل عن قريتي مزدريا بها مستهزئا، وتتفاخر عليها بمرتفعات لداخ وغاباتها وأشجارها وثمارها وثلوجها وجمالها الطبيعي.

اعلمنَّ يا أخا الظن! وبئس الحديث الظن، إن قريتي تسمى جمدهان، وما أدراك ما جمدهان! هي قرية معلومة في جونفور، لا يخطئها الأجانب، فهي تعرف بمقبرتها التي لا تساويها المقابر في المساحة، فإذا حاذت المقبرة شمالك وأنت قادم من جونفور ومتجه إلى أعظمكراه، فعلى يمينك القرية قبل أن تبلغ مصلى العيد القديم الكبير، وتمتاز قريتي بترابها ومزارعها، وغدرانها وأشجارها وآبارها، وأجوائها وعمرانها وخرابها، بل وبحوادثها ووقائعها ومسراتها وأحزانها.

اسمعنَّ يا ابن الطرق الوعرة والمسالك الصعبة! إن جونفور، وأعظمكراه وما جاورهما من القرى والمدن من أرقى بلاد الهند بل العالم بأسره، وهذه المنطقة مشهورة بكثرة جوامعها ومدارسها، وعلمائها وأدبائها وشيوخها وأعلامها عبر التاريخ، وإنها تتميز على لداخ - إلى جانب مناخها الطبيعي وحقولها الخضراء ومزارعها الخلابة للأنظار - في ناحيتين رئيسيتين:

الأولى: حضارتها، وبلغت ذروتها إبان السلطنة الشرقية، وسلاطين آل شرقي سلالة من السلاطين، حكموا الولاية الشمالية وبِيْهَار وبَنْغَال خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين، وعاصمتهم جونفور، كان مؤسس السلالة خَواجَه جَهَان من وزراء السلاطين من آل تُغْلَق (سلاطين دلهي)، قام بتأسيس إمارة مستقلة في جونفور، واتخذ أبناءه من بعده لقب "ملوك الشرق"، أو الشرقيين، ووطد ابنه شمس الدين إبراهيم شاه دعائم الدولة، ووسع أطراف السلطنة وضم مناطق بِيْهَار، وأَوَدْهْ، وقَنَّوْج، وأصبحت دولة آل شرقي من كبرى ممالك الهند الإسلامية، ومن أهم الشواهد على النهضة التي عرفتها دولة آل شرقي، العدد الكبير من الآثار العمرانية التي خلفها هؤلاء السلاطين من الجوامع الشامخة، والمدارس الذائعة الصيت، والقصور الفخمة، والحصون المتينة العتيقة الغارقة في القدم..

والثانية: ثقافتها، إذ بذَّت دلهي ولكنؤ في العلوم والآداب والفنون، وسماها شاهجهان بشيراز الهند، ومن المثل السائر "لا تدري ما القراءة والكتابة وتدعي أنك من جونفور".

انظرنَّ إلى مدارس جونفور ومكتباتها، ولا تزال إلى الآن في هذه المنطقة معاهد العلم التي يتحدث عنها الشرق والغرب، ففيها مدرسة جامع جونفور، ومدرسة لال دروازه، ومدرسة رياض العلوم بكوريني، ومدرسة ضياء العلوم بماني كلان، ومركز مولانا آزاد التعليمي، ومدرسة الإصلاح، وجامعة الفلاح، ومجمع دار المصنفين، والمدارس المنتشرة في مباركفور ومئو وخير آباد.

وتصفحنَّ الكتب المؤلفة فيها، منها مصنفات شهاب الدين الدولة آبادي الجليلة الممتعة التي سارت بها ركبان العرب والعجم: شرح بسيط على كافية ابن الحاجب، والإرشاد متن متين له في النحو تعمق في تهذيبه كل التعمق وتأنق في ترتيبه حق التأنق، والبحر المواج في تفسير القرآن الكريم بالفارسي، وشرح البزدوي في أصول الفقه، وشرح على قصيدة بانت سعاد، وشرح على قصيدة البردة، ورسالة في تقسيم العلوم بالفارسية، ومناقب السادات بالفارسي، وهداية السعداء بالفارسي، ورسالة في العقيدة الاسلامية، وله غير ذلك من المصنفات.

ومنها مصنفات الملا محمود الجونفوري، أشهرها الشمس البازغة في الحكمة، والفرائد شرح الفوائد للقاضي عضد الدين الأيجي في المعاني والبيان، وله تعليقات نفيسة على ذلك الشرح، وله حرز الإيمان في الرد على التسوية للشيخ محب الله الإله آبادي، وله رسالة بالفارسية في أقسام النساء، وله ديوان شعر فارسي.

وأما علماء جونفور فحدث عن البحر ولا حرج، وممن اشتهر فيها منهم: ملك العلماء القاضي شهاب الدين الدولة آبادي، والشيخ إله داد الجونفوري، والملا محمود الجونفوري، والعلامة محمد رشيد العثماني الجونفوري، والشيخ سخاوة علي الجونفوري، والشيخ كرامة علي الجونفوري، والعلامة شبلي النعماني، والعلامة حميد الدين الفراهي، والعلامة المحدث حبيب الرحمن الأعظمي، وعدد كبير غيرهم.

ولعل أكبر علماء قريتي هو الشيخ العالم الكبير الفقيه المحدث المفتي محمد حنيف بن الشيخ محمد ذاكر، ولد في قريتي (جمدهان)، والتحق بمدرسة ضياء العلوم في ماني كلان بجونفور، وأخذ عن الشيخ عبد الحليم الجونفوري، والشيخ ضياء الحق، ودرس بها إلى مستوى مشكوة المصابيح، وكتب إلى حكيم الأمة أشرف علي التهانوي يسترشده، فاعتذر عن ذلك لمرضه وأرسل إليه قائمة بأسماء خلفائه أن يرتبط بأحدهم، وأذن له في الكتابة إليه للدعاء، واتصل بالشاه وصي الله الفتحفوري، ورحل إليه في بلده فتحفور تال نرجا، وأقام لديه ثمانية عشر عامًا طالبًا، وستة عشر عامًا مدرسًا وخادمًا له، وأخذ الأصول الستة عن الشاه وصي الله الفتحفوري، وسمع عليه الصحيح اثنتي عشرة مرة، وأجازه في الحديث وطريقة القوم، ودرّس في إله آباد، ومدرسة ضياء العلوم بماني كلان، ورياض العلوم بكوريني، ودرّس صحيح البخاري ثمانيا وعشرين مرة، وتلاميذه منتشرون في كافة أرجاء البلاد.

وهل نسيت شيخ المحدثين محمد يونس الجونفوري؟ واقرأ ما كتبت عنه يوم وفاته، منه: وافى الأجلُ أكبرَ عالم بصحيح البخاري في الهند بل في العالم، لم يضارعه أحدٌ اضطلاعا به وتمكنا منه، في ضبط كلماته واختلاف رواياته، والاطلاع على رواته ورجاله، والوقوف على خصائصه ومزاياه، والكشف عن رموزه وخباياه، وشرح معانيه، وفقه أحكامه، ومعرفة ما استشكل منه، واستجلاء ما خفي منه، ولعل أكبر ما تميز به أنه نظر في الصحيح بعينه وتفقهه بعقله غير قابل النظرات الفقهية الضيقة ولا التأويلات الفلسفية والكلامية المشوهة، مترفعا عن العصبيات المذهبية، نزيها عن النزعات الطائفية، متعفِّفا عن المجادلات العقيمة، فنال مراما مُنِع منه غيرُه.

حسبك ذلك يا عمر! إن كنت منصفا، وفضائل جونفور تضيق عنها المجلدات، واعلمنَّ أن الاشمئزاز من الاعتراف بالجميل صنو الحسد، وما أراك ترضى بهذه الخصلة التي أجمعت الأمم على قبحها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين