هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في حب الحياة والإنسانية

الأستاذ البهي الخولي
 
هل فكر أحدنا في علاقته بالحياة؟!، هل فكر في علاقته بإخوانه في الإنسانية؟!.
أغلب الظن أن أكثرنا لم يفكر في شي‌ء من‌ ذلك، وكل ما يعنيه هو أمر نفسه، وكسب‌ رزقه، فإن اطمأنَّ إلى ذلك على أي وجه من‌ الوجوه، فهو حسبه، ولن يفكر في شي‌ء بعده‌.. وذلك هو الداء الذي يُصيب المرء بضمور العقل، وتفاهة الشخصية، وضيق العاطفة.
وحين يتأمَّل المرء في هذه الآفة يأخذه‌ العجب ممن يستقبل الحياة الرائعة والكون‌ العظيم، وهو ذاهل كأنَّه لا يرى شيئا فلا يثير اهتمامه فيه إلا ما يتعلق بلقمة العيش، وذلك بلا شك أمر غير طبيعي..ولا يستقيم‌ أمر الإنسان إلا إذا استقام على طبيعته، فرأى الأشياء كما هي، وتأمل في هذا الشيء الرائع، وقال:ما هذا؟..وتأمل في أفراد الإنسانية.. وقال: ما هؤلاء؟.. وظل‌ يدرس .. ويدرس حتى يقيم علاقته بالحياة والناس على أساس من المعرفة الصادقة، والمثل القويمة؛
وأفضل ما نسترشد به‌ في ذلك هو هدي رسول الله صلى الله عليه‌ وسلم، نسوق طرفاً منه تحيَّة لذكري ميلاده‌ عليه الصلاة والسلام:
ذلك خلاصة هديه صلى الله عليه وسلم في حب‌ الحياة، وقد يحب الإنسان الحياة لما له فيها من‌ شهوات الطعام والشراب واللباس، ولذّات‌ الجسد، وسائر ألوان الترف الحسِّي.. وقد يحبها لمجرد التشبُّث بها، والرغبة في أن‌ يعيش فيها على أيِّ لون من العيش فَرَقاً من‌ الموت على نحو ما قال الله سبحانه في اليهود: [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] {البقرة:96}.
وذلك في الحقيقة ليس حبا للحياة، بل‌ هو حب مصدره الأنانية، أي حب المرء لنفسه..وهو حب حيواني ليست فيه أقل‌ سمة من إنسانية راقية..
أما حبه صلى الله عليه وسلم للحياة، فكان مبعثه‌ أن الحياة - في ذاتها - جميلة، وأنه أدرك‌ بفطرته هذا الجمال فثار حبها في قلبه.. وجمال الحياة في ذوقه وتقديره، لا يرجع إلى شكل ظاهر، وشارة محسَّة..بل يرجع إلى أصلين عتيدَيْن لا يبدوَان للحواس العاديَّة، ويدركهما ما في الإنسان من بصائر الذوق‌ والإدراك.. يرجع جمال الحياة إلى أنها كون خلقه الله للخير، والحق والقوة، والرخاء والبر.. ونحوها من المثُل التي‌ لا يرقى إلى تقدير جمالها والتجاوب معها إلا ذوو البصائر العليا المدركة لحقيقة الجمال‌.. ويرجع قبل ذلك إلى نسبة هذه الحياة الجميلة إلى الله!.. فهي خلق الله، وحسب‌ الشيء جمالا أنَّه خلق الله سبحانه.
والإنسان خلق عجيب رائع، استودعه الله‌ من الأذواق، والمدارك، ومكنونات المشاعر، ما لو هدي إليه وأثاره لملأ إهابه طرباً، وبشراً وفرحاً بالحياة.
ففطرته الحافلة بتلك الأذواق القدسيَّة، تقوم في كيانه كالمرآة، تستقبل الحياة... ولكن لا تنعكس عليها «صور» ولا «أشكال» للأجرام المحسَّة بل تنعكس عليها «الحقيقة» أو «الروح»، حقيقة الخير وروح الحق، وجمال النسبة إلى الله.. بل جمال النسبة إلى الله هو أول ما ينفذ من تلك المرآة إلى صفحة الذوق الحسَّاسة، وهي المفتاح لكل‌ ما يذاق بعدها في الحياة من جمال الحقائق‌.. وهنا يمتلئ كيان المرء بأذواق الجمال‌ والسعادة..ويعظم تقديره للحياة، واحترامه إياها..وتتغير نظرته إلى قيمها وأهدافها.
فإذا بلغ المرء من نفوذ البصيرة ورهافة الذوق أن يدرك الأشياء في جمال نسبتها إلى الله فقد بلغ في هذا اللون العظيم من‌ الإدراك والذوق ذروة عزيزة المنال، وأحس‌ كأن هذا الجمال يعقد الإلفة بينه وبين‌ الكائنات، فهو وإياها طرفان يجري الحب‌ بينهما في تعاطف وتجاوب.. وانظر في‌ ذلك حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:-وقد مر يوما بجبل‌ أحد-: «أحد جبل يحبنا ونحبه» (البخاري، ومسلم). وما كان لأُحُد من محاسن الجمال إلا جمال النسبة إلى الخالق سبحانه.. وإن ما نحسه في‌ الحديث من حلاوة التجاوب يشعرنا بمدى‌ ما كان يحسه صلى الله عليه وسلم من ابتهاج بالحياة وتفاؤل بمرآها..
فالمطر سبب وارد للخير الحسي، ولكن‌ الجمال في نسبته إلى الله سبحانه هو الذي‌ أشاع في نفسه صلى الله عليه وسلم تلك البهجة.. ذلك إلى أنه سبحانه لم يرسله إلا وهو يريد رحمة بعباده..والرحمة ظل سابغ تجد فيه‌ البصائر ما يؤمِّنها على رعاية الله ومواصلة مدده للروح..
والرحمة بهذا المعنى أوسع من‌ أن تحتويَها قطرة الماء، فما القطرة -إذن- إلا رمز إرادة الرحمة وإقبال الله على عباده‌ بالحياطة والخير.. وذلك كله ما فرحت له‌ سريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 فالخير الحسي في ميزان الإسلام وبصائر أهله رمز أو مظهر لرخاء النفس وما ينعم‌ به الباطن من خير روحي..ولذا لا تتعلق‌ همَّة أهل البصائر منه إلا بما يحقق معنى الرمز..فإنه نصيب البدن، والاستغراق في‌ لذته حجاب للبصيرة.
وهذا معنى دقيق، فللمرء في هذه الحياة همتان: همة في إبداع الخير وتمثيل الفضيلة .. بتثمير الثروة.. وهمة فيها يسعد نفسه.. وسعادة النفس هي: ابتهاجها وطربها بما تذوق من فضل الله وجمال‌ الحق..
أما الخير الحسّي فلا أرب للروح‌ فيه إلا أنه شارة فضل من الله ورحمة، توجب‌ الشكر..وهذا أجمل ما فيه وهو الجدير أن تتعلق به همة ذوي البصائر.
وفي ضوء هذه الحقيقة يقول رسول الله‌ صلى الله عليه وسلم:«عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير: إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له..وان أصابته ضراء صبر فكان‌ خيراً له» (أخرجه مسلم، من حديث صهيب بن سنان). ومن السراء: إقبال الزيادة في نصيب‌ الدنيا..ومن الضراء: إصابته بالنقص.
ووصف الزيادة بالسراء، والنقص بالضراء، إنما هو أمر اعتباري رُوعي فيه العرف الدنيوي‌؛ فحقيقة السراء هي ما للضمائر عند الله من‌ فضل ونعمة، وحقيقة الضراء هي حرمان‌ هذا الخير، ولا سراء مع هذا الحرمان‌ مهما يكثر نصيب الدنيا، ولا ضراء مع‌ فضل الله ونعمته، مهما يقلُّ هذا النصيب، ولذا كان المؤمن الموصول بفضل الله ونعمته‌ في خير دائم، أقبلت عليه زيادة أهل الدنيا أو نقصانها فإنه في الحالين يذوق ما هو أعلى ..ففي حال الزيادة لا يرى فيها إلا أنها «رمز» رحمة يوجب الشكر.. وفي حال‌ النقص لا يرى أنه نقص شيئاً بجانب ما هو فيه، وتلك حقيقة الصبر؛ فالصبر هو اشتغال النفس بما هو كبير، أو جميل، أو ثمين، فإذا أصيبت بما هو أدنى، كانت في‌ شغل عنه، فلا تحس وقع الإصابة به، وهو من ذروة الحقائق التي جاء بها الإسلام.
وقد تتعقد بعض النفوس لأسباب شتى، فتهبط مداركها ومروءتها، ويحتجب عنها ما في الحياة من خير، فيرونها ذميمة أو ثقيلة بغيضة، فيعودون بالذم والملامة على الدنيا، وعلى الدهر.. وينهي الرسول أن‌ تقوم صلة الإنسان بالحياة عليه ذا الفهم‌ الناقص والإدراك المحجوب، فيقول: «لا تسبوا الدهر، فإن الدهر هو الله" (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة)، ويقول:«لا تسبوا الدنيا» (الديلمى ، وابن النجار عن ابن مسعود)، ثم يبصرهم‌ بميزان الخير والشر، ليدركوا حقيقة ما فيها من جمال فيحبوها فيقول: «نعمت مطية المؤمن: عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من‌ الشر».
وإذ كانت بصيرته تتعلق من الجمال بذوق‌ الحقيقة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يرى كل‌ ما حوله جميلاً من طبيعة صامتة وناطقة... وبالتالي يراه حبيباً في نفسه..وكان يحب‌ أن يرى أذواق الناس، تستقبل هذا الجمال‌ في عمق، وتحيله في ضمائرهم وخواطرهم‌ تفاؤلاً وبهجة، وكان يطرب إذا رأى أثر هذه‌ السراء فيما حوله، ولو في لفظ يلقيه عابر سبيل عن غير قصد، فهو على أي حال شارة رخاء ويمن..
كان يريد الخروج يوما لمهمة بإحدى النواحي فسمع بالخارج متحدثاً يقول: هذه خضرة، ففرح بها صلى الله عليه وسلم وقال:«يا لبيك!..أخذنا فألك من فيك، فاخرجوا بنا إلى خضرة» ( رواه أحمد، وأبو داود، من حديث أبي هريرة) قال الهيثمي في "المجمع": كثير بن عبد الله ضعيف جدا وقد حسن الترمذي حديثه ، وبقية رجاله ثقات.
وليس ذلك شأن الذي تلعب به الكلمة فتقدمه أو تؤخره..ولا شأن السطحي الذي‌ لا يعد لمهمات الأمور سوى فأل مرسل إلى قصد أو غير قصد..إنما هو شأن البصيرة التي‌ ترى في شارات اليمن أثرا لتجاوب سرائر الناس وأذواقهم مع حقيقة الخير وجماله.. وذلك هو عين النجاح والفلاح..
إن تجاوب‌ السريرة مع روح الخير والجمال، معناه أن‌ النفس حفلت ورويت بما قبست ونالت من‌ حقيقة هذه المثل، وذلك هو عين الرخاء الذي‌ يجري على الألسنة أو الجوارح شارات معبِّرة عنه..فكل شارة من هذه يراها أو يسمعها محب الحياة، لها في تقديره دلالة غير دلالتها السطحية لدى الآخرين، إذ هي كالرقم الجديد الذي يضاف إلى رصيد ما يملك المرء من ثروة، أو هي آية نصر جديد يفرح به أهل‌ البصيرة، لا لارتباطه بأمل يرتجى، بل لأنه‌ في ذاته غنيمة حاصلة وحيازة معجلة تثير الهمة إلى خطو مستقبل وعزم جديد..وذلك‌ هو فارق ما بين الفأل في نظر البصيرة الواعية، والفأل في غباوة أهل الإدراك‌ المطموس.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «يا لبيك! أخذنا فألك‌ من فيك...فاخرجوا بنا إلى خضرة» (تقدم تخريجه) هو صدى فرحه ونشاطه لنعمى ذاقتها سريرة المتحدث، وكان لها من الآثار في عالم الحس‌ ما وصفه الحديث بأنه خضرة.. لا أنه هو العدة لما يريد أن يخرج إليه.
ومن سنن الحياة في الخير الحسي‌ والروحي أن أحدهما لا ينال إلا بالهمّة له، والتذرع بوسائله المفضية إليه.. فإذا وجد هذا الخير فهو شارة نعمة سابغة، وإذا وجدت الهمة فهي آية انبعاث جديد.. وكلا الأمرين دليل على تجاوب الإنسان مع الحياة ظاهراً وباطناً، وذلك أحد الأسس التي كانت‌ تقوم عليها صلته صلى الله عليه وسلم بالحياة، ويراها سبيلا للخير ومفتاحاً له.
وإذا طرب صلى الله عليه وسلم للفأل الحسن في‌ «خضرة» فقد كان يضيق بكل ما يدل على ‌ ركود الهمة، صرفها إلى الشر، أو مخالفة سنن الخير، ولو كان شارة لفظية، فهو على‌ أي حال شارة حرمان أو غفلة عما يجب أن‌ يكون..وانظر إلى حسه العميق وذوقه المفعم‌ بالخير في تغيير أسماء بعض من حوله: فقد كان لعمر بن الخطاب بنت اسمها«عاصية» فضاق بهذا الاسم وسوء دلالته وسماها «جميلة».. وهذا رجل اسمه «حرب» يغير اسمه «سلم» ، وهذا آخر اسمه‌ «المضطجع» فيسميه «المنبعث».. بل‌ الجماد نفسه كان بغير اسمه إذا لم يأتلف مع‌ حقيقة الخير التي يقدرها ذوقه وإدراكه، فهذه ساحة من الأرض اسمها «عفرة» فيسميها «خضرة».
وكان يقول:أقبح‌ الأسماء: «حرب ومرة» وأصدق الأسماء :«حارث وهمّام» لأن الحارث هو الكاسب، والهمام هو الذي يهم المرة بعد الأخرى.
ومن جمال الحياة والأفراد تحقيق خلائق‌ الكسب والهمة، وتنحية أسباب الحرب‌ والمرارة.. وكان صلى الله عليه وسلم يوجِّه أذواق‌ أصحابه إلى حقيقة هذا الجمال فيقول:«إنكم‌ تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فحسنوا أسماءكم» (رواه أحمد، وأبو داود من حديث أبي الدرداء). قال النووي : إسناده جيد ، وقال البيهقي إنه مرسل.
وتحسين الأسماء في تقديره صلى الله عليه وسلم يجاوز التعلق بطراوة اللفظ، ونغمة الجرس‌ إلى القوة التي تهب للقفر ما يخضر به أديمه، والانبعاث الذي يزيد به رصيد الرخاء والكسب، وقد رأينا ألا فرق بين المضطجع‌ والمنبعث في عدِّ حروف الكلمة أو وزنها، ولكن ما بينهما من فارق الدلالة على قبح‌ الاضطجاع، وجمال الانبعاث، كان جديراً أن‌ يثير الذوق الأصيل إلى إبطال شارات القبح‌.. يريد أن تمضي أذواقنا وبصائرنا فلا ترى الحياة إلا على سوائها في الخير والجمال، ولا أثر لها في نفوسنا إلا الحب والتفاؤل.
الاستعمال الأول: يطلق ويراد به أفراد البشر كافة..
والاستعمال الثاني: لا يراد به الأفراد، بل‌ يراد به فطرة الله التي امتاز بها الأفراد فارتفعوا بها عن فطرتهم الحيوانية، وصار لهم بها من خصائص النفس وحوافز السلوك‌ ما فضَّلهم الله به على كثير من خلقه من‌ حيوان وغير حيوان.
وثمر هذه الفطرة الإنسانيَّة ليس مالاً يحاز، ولا عرَضاً يُجْلب، فهذا من ثمر الجوارح الحسيَّة حين ينطلق المرء من الأرض‌ لكسب قوته مع توجيه فكره المنطقي..ثمر هذه الفطرة أمر جليل خطير يَعنينا منه في‌ هذا المقام إحساس عميق في النفس يعطف‌ صاحبه إلى الناس بالتراحم والحب..
فإذا كان طبعه الحيواني يثمر فيه الشعور بالأنانية والأثرة، فتلك الخصوصيَّة الإنسانية تذيب‌ فيه هذه الأنانية، فلا يشعر بنفسه، بل‌ يشعر بالناس في نفسه، كأنما هو الناس‌ جميعا، أو كأنما الناس أعضاء موصولة بحسه‌ الجيّاش بالتراحم والحب، فلا يلقى منهم‌ أحداً إلا هشَّت له سريرته، وامتدَّت إليه‌ عاطفة من رحم، يستوي في ذلك من يعرف‌ من قبل ومن لا يعرف؛ لأن فطرة الرَّحِم فيه‌ ترى نفسها في كل وجه تراه، وتنشئ في‌ نفسه من المشاعر ما تعبر به لكل وجه عن‌ تجاوبها مع ظروفه.
ذلك بعض ما نريد بحب الإنسانية، لم‌ نعتمد له قول عالم أو فيلسوف، بل رجعنا فيه إلى المأثور من حال رسول الله صلى الله‌ عليه وسلم، حاله التي لم ينزل بها وحي، ولم يرسمها له تقليد بيئة، وتوجيه معلم، بل كانت نبع فطرته صلى الله عليه وسلم، وفيض‌ طبعه.
فقد كان حبه صلى الله عليه وسلم فيض رحم عامة دائرة بينه وبين كافة أفراد البشر.. وهذه‌ الرحم غير الرحم الخاصة التي يتعاطف بها أفراد الأسر والعشائر فيما بينهم، فيحب‌ الولد أبويه، ويحب الأخ أخاه في عاطفة تتدرج في الفتور كلما ابتعدنا عن مركز البنوة والوالدية، أي: أن الترابط على الرحم العامَّة يقوم على غير أواصر النَّسب الحسِّي وقرابة اللحم والدم. يقوم على تماثل الفطرة العاملة، بل على وحدة تلك الفطرة التي ميزت الإنسان‌ بخصائصها وجعلت له طابعه المعروف.
ومن الواضح أنَّ الترابط على تلك الفطرة أوسع مدى وأكرم بواعث من الترابط الذي‌ يقوم في أفق الرحم الخاصَّة؛ لأنَّه يشمل أفراد الإنسانية جمعاء.. وبواعث الحب فيه تقوم‌ على جمال ما تثمر الفطرة في النفس من‌ الصفات والمبادئ.
وقد يبدو منطق هذه الرحم العامَّة بالقياس‌ إلى واقعنا الحالي، لوناً من النظريات التي‌ يتجافي عنها الواقع وتتجافي عنه، فهي من‌ مثاليات الفلاسفة وطوبيات الأحكام... ولكن‌ هذا المنطق نفسه هو الذي كان يحكم العلاقات‌ بينه صلى الله عليه وسلم وبين الناس، فيوالي‌ ويعادي على أساس التعارف والتناكر فيما يبدو من جمال الخصائص أو نكرها، فرب‌ ذي رحم خاص خرج من دائرة ولائه، دون‌ أن يجحد حق رحمه..ورب بعيد دخل‌ دائرة ذلك الولاء حتى صار من خاصَّة أهله.. وكان ميزانه الدقيق في ذلك: [وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] {التَّحريم:4}.. فيقول عن سلمان‌ الفارسي الأصل:«سلمان منا آل البيت» (رواه الحاكم في مستدركه، وضعفه الذهبي في التلخيص)، ويقول لبعض ذوي رحمه:«إنكم لستم لي‌ بأولياء، ولكن لكم رحما أبلها ببلالها» (أصل الحديث في مسلم، وذكره البغوي في شرح السنة )..
على أنه كان صلى الله عليه وسلم عجباً في ولائه‌ وعدائه، إذ كان يحب الموالين والمعادين جميعا، غير أن حبه لأوليائه يذهب بطابع الارتياح‌ لهم والفرح لما هم فيه..ويذهب حبه‌ لأعدائه بخصوصية الحزن عليهم والرثاء لشأنهم‌ .
وقد جاء ذلك المعني الجامع في مضمون‌ قول الله تعالى: «[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:128}، فهو حريص على ‌ الجميع، يعزُّ عليه ما يُعنتهم..وينفرد الموالون بشي‌ء آخر هو أنه بهم رؤوف‌ رحيم.
وقد يكون حبه لأوليائه مما لا يحتاج إلى بيان وحسبنا في إحساسه بهم قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه» (أخرجه مسلم، وغيره من حديث جابر بن عبد الله) فقد بلغ من ذلك الإحساس أنه أربى على حس كل‌ منهم بمشكلته، وبعث فيه من الحنو ما جعله‌ أكثر اهتماماً وأولى بحمل العب‌ء منه حياً وميتاً، وفي ذلك يقول تكملة للحديث: «من ترك مالا فلورثته..ومن ترك ديناً أو ضياعاً-أي عيالاً ضعفاء-فاليَّ و عليَّ»وكان‌ أحدهم ربما أنفق ماله كله في سبيل الله‌ ويقول لمن يسأله ماذا أبقيت لعيالك: «أبقيت لهم الله ورسوله» فإذا مات مات‌ قرير العين؛ لأنَّه ترك أولاده لمن هو أولى بهم‌ منه. أولى حقيقة وعاطفة وأمراً واقعاً لا خفاء به عن أحد. وقد أعلنه القرآن ثناء عليه صلى الله عليه وسلم وتقريراً له بقوله سبحانه: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ] {الأحزاب:6}.
أما حبه لأعدائه‌ فكان كما قلنا يتَّسم بسمة الحزن على ما هم‌ فيه من جهل، وحرمان من السعادة الحقيقية، مع الرغبة الملحَّة أن تكشف الحقائق‌ لبصائرهم فينعمون بما ينعم به المؤمنون، وكان هذا الحزن يقضُّ مضجعه، ويورث‌ نفسه همّاً ثقيلاً يشرف بها على الهلاك، حتى عاتبه القرآن في ذلك بقوله: [وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ] {النمل:70}، وقوله: [ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] {فاطر:8}، وبيَّن له مدى واجبه في‌ الرسالة بقوله: [إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ].
ولكن الأمر بالنسبة له صلى الله عليه وسلم أنَّه‌ ليس رسولاً فحسب، بل هو إلى جانب ذلك‌ إنسان فإذا أنهى واجب الرسالة بالبلاغ، بقي نبض الرحم الإنسانية يجيش بالقلق‌ والحزن، ويبعثه إلى الجهد والتعرض لهم‌ بكل ناد أو طريق.
كان ينزل عليه قوله سبحانه: [إِنْ تَحْرِصْ عليهدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ] {النحل:37} ولكن ماذا يصنع بهؤلاء الذين يحبهم‌ كأنهم يحيون في قلبه. أوكأنهم أعضاء موصولة بحسه المرهف، وهو يدرك قسوة ما هم فيه من شقوة روحية؟.
لو أن الأمر يرجع إلى أنَّه نبي رسول‌ لنفض يده منهم بمجرد البلاغ، ولفوَّض إلى الله أمرهم، وقال ما قال إبراهيم الخليل‌ عليه السلام : [فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {إبراهيم:36}، ولكن رسول‌ الإنسانية صلى الله عليه وسلم أمدَّ في فطرته بالرحيق الحي‌ النابض بالحب للإنسانية جمعاء، فعناه من‌ أمرهم ما وصفنا من الحزن، وهو أمر لم‌ يشهد التاريخ مثالا له!.
ولو أنَّ سبيل علمنا بذلك هو رواية الرواة وحدها لردنا سمو المثال إلى شي‌ء من الريبة والتردد.. ولكن العلم آت بالوحي المتواتر عتاباً على ما يصنع بنفسه، ولننظر قول الله‌ جل شأنه:«[لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ -أي‌ قاتلها- أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] {الشعراء:3}، وقوله: «[فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا] {الكهف:6}، فهو شاهد بأن تبريح‌ الحزن في نفسه بلغ أن يصفه القرآن بأنه‌ مفض إلى القتل.. ومع ذلك يرى في هذا العتاب لوناً من المواساة، ولا يرى فيه عزمة من الله تردُّه عما هو بسبيله، فيظل مع‌ إنسانيته يحمل أذاهم ويجهد لهدايتهم ما استطاع..
ولقد بلغ منهم أنهم وطئوا ظهره وألقوا عليه السَّلا.. وفي غزوة أُحُد شجّوا وجهه، وكسروا رَباعيَّته، وأسالوا دمَه، ومثَّلوا بجثة عمِّه، فبقروا بطنه، واستخرجوا كبده فمضغوها شفاءً لأنفسهم‌ منه..فضجَّ المسلمون وقالوا: يا رسول الله هلاَّ دعوت عليهم، فماذا قال الودود المحب‌ للإنسانية؟ لقد أجابهم:«إني لم أبعث‌ لعَّانا..ولكني بُعثت داعيا ورحمة..اللهم‌ اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون» (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة).
إنه يشرف على الوجود من ذروة رفيعة تعلو على السدود والقيود، فيدرك من حقيقة الخير والسعادة والرشد ما لا يدركون، وإن‌ حجابهم عنه لينزل من الشقوة ما يفزع له‌ ذوو الضمائر المبصرة، فلا يطيقون الصبر عليه فضلاً عن الدعاء عليهم بمضاعفته، وما كسر رباعية أو مضغ كبد ميتة إلا عرض‌ يسير من أعراض الداء الفادح لا موقع له في‌ النفس الآسية لهم إلا موقع الرثاء، ودعاء الله‌ لهم بالهداية، والاعتذار عنهم بأنهم لا يعلمون.
وهؤلاء منافقو المدينة، كانوا شرا ً على ‌ الجماعة من عدوها الخارجي، إذ كانوا لا يفتأون يبغون الفتن، ويلقون الدسائس لإيقاع الفرقة، والوهن وإضعاف الروح المعنوية.. وشهرة ذلك في القرآن الكريم تغنينا عن‌ إيراد شواهده..وكانوا إلى ذلك سمَّاعين لكل‌ جبهة مُعادية، أي جواسيس.. إذ كانوا يوالون اليهود ويلقون إليهم بكل نبأ، ويتلقون‌ منهم التوجيهات.. وكانوا مُتصلىن بالمشركين‌ ولم تسعفهم تلك الصلات بشفاء صدورهم‌ فاتصلوا برؤساء الروم.. أرسلوا إليهم‌ الرسل، والمكاتبات، وأفضوا إليهم بالإسرار والثغرات، وحضورهم على الحضور للغزو.. وكانوا في ذلك كله يخذلون الجيش بكل‌ وسيلة.
ذلك كان شأن منافقي المدينة..فما جزاؤه‌ في أي شرعة قديمة أو حديثة؟..هل‌ جزاؤه إلا الإعدام؟..ولكن للإنسانية العالية الودود مذهب في الرفق ومطاولة الأمل‌ في هداهم، يأتي بما لم يأت به الإعدام.. فكان صلى الله عليه وسلم دائم الاستغفار لهم، فأنزل‌ الله سبحانه: [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {المنافقون:6} ولكن أيمسك عن الاستغفار؟.. أليس هناك أمل في أن يرجع هؤلاء أو بعضهم‌ عما يخونون؟..لقد مضى صلى الله عليه وسلم يستغفر لهم من ذوب قلب يرجو هداهم، وكأنما أنكر عليه بعض أصحابه هذا الاستغفار فقال: «لقد خيرت أن أستغفر لهم أولا أستغفر فاخترت الاستغفار، والذي نفسي‌ بيده لو علمت أني لو استغفرت لهم فوق‌ السبعين غفر لهم، لاستغفرت» (أخرجه البخاري، من حديث ابن عمر).
وجاء أحد هذه الفئة وأعلن إليه ندمه‌ وتوبته.. ثم عرض عليه استعداده أن يفضي‌ بأسماء من كان معهم. فماذا قال الإنسان‌ النبيل العظيم صلى الله عليه وسلم؟.. لقد قال:«من أتانا استغفرنا له، ومن أبى فالله أولى به، ولا تخرقنَّ على أحد ستراَ» (رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة "أبي عمر البيروتي" من طريق هشام بن عمار).
ونحن نترك أن تنزه خاطرك في روض هذا المثال الفذ، ثم تسأل نفسك، أو تسأل من‌ تشاء:هل في مناقب الأولين والآخرين نفس‌ حلَّقت فيما حلَّقت فيه هذه الإنسانية الفذَّة من‌ آفاق الفضل والسماحة؟!.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر : منبر الإسلام، السنة التاسعة عشرة، ربيع الأول 1381 هـ، العدد الثالث.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين