هجرة محمد صلى الله عليه وسلم

 

 

الشيخ علي الطنطاوي

 

ألقيت هذه الكلمة في الجامع الأموي في الاحتفال بيوم الهجرة، ونُشرت سنة 1943.

 
في هذه الأيام التي ذاق فيها الأغنياء عَضّة المجاعة، والأقوياء ذِلّة الضراعة، ومشى داء الهمجية إلى ديار المتمدنين، وشمل الظلام مدائن النور، وهان الحق والعلم والفن، وعزّ السيف وغلى الرغيف...
في أيام الحرب السود، ولياليه [هي كذلك في أصل المقالة. وفي المعجم أن الحرب لفظة مؤنثة، وقد تذكّر على معنى القتال. وقد نُشر المقال والحرب العالمية الثانية في أوجها (مجاهد).] العوابس، تجتمعون آمنين مطمئنين، غير َجائعين ولا مروَّعين، فاحمدوا الله على نعمة السلام، فلولا خطرها ما كانت تحية الإسلام >السلام عليكم ورحمة الله وبركاته<.
يا سادة: في المشرق والمغرب، من شواطئ الأطلنطي إلى سواحل الهادي، في القرية الخاملة والمدينة الآهلة، يجتمع هذه الليلة إخوان لكم مثل اجتماعكم، قد تناسوا الحرب وأهوالها، والغلاء والبلاء، والموت آتياً من الأرض ومنصبّاً من السماء، ليحتفلوا في أيام الحيرة والخوف بذكرى الهدى والأمان، ويهتفوا باسم مَن أدرك العالم حينما دهمه ليل كهذا الليل، فأطلع عليه من نور الحق فجراً ساطعاً، ليهتفوا باسم سيد العالم: محمد ‘.
يا سادة:
إن لكل أمة مواسم تجتمع فيها، وذكريات تحييها، وعظماء يمجدهم خطباؤها، ومآثر يفخر بها شعراؤها. ولكن الذكرى التي اجتمعنا لأجلها لا تُقاس بها الذكريات؛ إنها أجلّ منها وأعظم. إن الحادث الذي جئنا لتمجيده لا تشبهه الحوادث؛ إنه أعزّ على التاريخ منها وأكرم، إنه أسمى من كل مأثرة فخرت بها أمة، واعتزّ بها جيل. فإذا أردتم أن تروا فيمَ كان جلالها وسموّها فدعوا هذا الحاضر لحظة وأوغلوا معي في مسارب الماضي؛ مرّوا بين القرون وتخطوا أعناق السنين، حتى تقفوا على القرن السابع الميلادي وقد أهلّ على دنيا رثّتْ فيها حضارة الأولين، ونُسي الدين، وآضت [آضَ يئيضُ أيضاً: عاد، ويقال: آض إليه. وآض الشيءُ كذا: تحول إليه؛ يقال: آضَ الثلجُ ماءً (مجاهد).] العبادات عادات، والعلم ترديداً بلا فهم، والفن تقليداً بلا تجديد، وأخذ الملوك الطغاة بمخانق الشعوب، ونخرت الفوضى عروش الطغاة، وسكت العلماء وهربوا إلى الصوامع، وأيس المصلحون واختبؤوا في الأغوار، وأوشكت الإنسانية أن تتردى في هوة ما لها من قرار!
هنالك، وقد غلب اليأس، بعث الله الفرج على يد رجل؛ رجل واحد طلع من وسط الرمال المتسعّرة الملتهبة التي يُشوى عليها اللحم، لحم كل عادٍ يطأ ثراها وعاتٍ يريد بالشر حِماها، من القرية التي هجعت دهراً بين الحرّتين، لا يدري بها قيصر ولا يحفِلها كسرى، من أرض الفطرة والحرية التي لم تبلغها أوضار [الأوضار هي الأوساخ، والفعل منها: وَضِرَ يوَضَرُ وَضَراً. وهي مفردة كثيرة الدوران في كتابات جدي رحمه الله (مجاهد).] المدنيّة، من حيث انبثقت الحياة البشرية أول مرة: من جزيرة العرب...
رجل واحد قام وحده لإصلاح الدنيا، قال لقريش سادة العرب: اتركي هذه السيادة؛ فالناس كلهم سواء، لا فضل إلا بالتقوى والأخلاق وبارع الخِلال. وقال للعرب المشركين: حطموا هذه الأصنام، فإنها لا تضر ولا تنفع، واعبدوا الله الواحد الأحد. وصرخ بكسرى وقيصر أن دعا هذا الجبروت الظالم وهذه الربوبية الكاذبة؛ فما كان بعض البشر أرباب بعض، واتبعاني أجعل منكما عبدين للّه صالحَين!
فثارت به قريش، وقام عليه العرب، وعاداه الملكان كسرى وقيصر، وأُعلنت أقدس حرب وأعجبها: الحرب بين محمد وبين العالم كله، الحرب التي انتصر فيها محمد على الدنيا!
ولكن ما شأن الهجرة في ذلك؟ ليست الهجرة -يا سادة- انتقالاً من مكة إلى المدينة، وليست سفراً كالأسفار، ولكنها المرحلة الأولى من هذا الزحف المجيد للحملة التي جرّدها الله على الكفر والظلم والفحشاء والمنكر وجعل قائدها محمداً ‘.
إنها الخطوة الأولى من هذا الزحف الذي لم يقف ولم يتباطأ، حتى امتدّ من الهند إلى مراكش، ثم عبر البحر من هنا إلى الأندلس، ومن هناك إلى البلقان، ثم دخل في الزمان واجتاز العصور حتى انتظم أربعة عشر قرناً، وغمر نصف المعمور بالنور، ثم إنه سيمتد حتى يبلغ آخر الزمان ويعمّ الأرض كلها.
إن الهجرة هي الحلقة الأولى من سلسلة المعارك الظافرة الفاصلة التي خضناها دفاعاً عن الحق والعدل، والتي منها بدر والخندق والقادسية واليرموك، ونهاوند وجبل طارق، وعمورية والحدث، وحطين وعين جالوت والقسطنطينية، وطرابلس والغوطة وجبل النار.
لقد مشى محمد ‘ ليزيح الظلام ويحطم طواغيت الظلم حيثما قامت... وقريش الحمقاء تحسب أنه بُعث لها وحدها، وأن مدى رسالته متسَع هذا الوادي، وأنه هاجر خوفاً منها، لذلك بعثت رسلها ينفضون الأرض ليأتوا به ويرجعوه إليها.
يا لجهالة قريش، ويا للغرور السيئ ما يصنع بأهله!
مَهْ يا قريش الحمقاء؛ إنك لا تعرفين من هو محمد ولا تدرين ما رسالته! مه يا قريش؛ دعيه يمر، إن في يثرب أنصاراً له ينتظرونه. إن وراء الرمال، في بلاد الظل والماء، شعوباً ترتقب مجيء النبي، قد علّقت به آمالها، ونفد في ترقّبه صبرها. إن وراء القرن السابع أمماً لا تزال في أحشاء الغيب تنتظر النبي، فهل حسبت قريش أن في الغار رجلين اثنين؟ إن فيه أمل الدنيا؛ فيه رحمة اللّه للعالمين. فيا لجهالة قريش حين تريد أن تمنع رحمة الله عن العالمين!
*   *   *
أتعرفون ماذا صنع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وجَدَ العرب قبائل وبطوناً؛ لكل قبيلة عالَم، ولكل بطن دين، آلهتهم شتى، وأربابهم أصنام، همهم سيف يُجرَّد، أو جمل يُنحَر، يأكل بعضهم بعضاً؛ فبكرٌ تحارب تغلبَ، وعبس وذبيان، واليمن ومُضَر. لهم ملوك في مشارف الشام وأطراف العراق، ولكن ملوكهم خَوَل لكسرى وقيصر، يقتلون إخوانهم في العروبة في سبيل الأجنبي.
وجد في مكة، وهي حاضرة العرب ودارة قريش، بضعة عشر يقرؤون ويكتبون، وسائر أهلها أميين. ووجد علماء العرب هم الكهّان والشعراء، أولئك يَسجعون فيهرفون بما لا يعرفون، وهؤلاء يشبّبون ويمدحون ويذمون!
أفبهؤلاء يصلح العالم الفاسد؟ إنه لموقف يُؤيِس العظيم، ولكن محمداً لا يعرف اليأس أبداً، ولا يعرفه أتباع محمد!
إنه يريد أن ينشئ من الأمة المشركة المتفرقة الجاهلة أمة واحدة مؤمنة عالمة، فليصنع كما يصنع البنّاء: يضع الحجر على الحجر فيكون جداراً. وكذلك فعل محمد ‘: بنى أمّة صغيرة من ثلاثة؛ من رجل وامرأة وصبي، من أبي بكر وخديجة وعلي، فكانت نواة هذه الأمة الضخمة التي ملأت -بعدُ- الأرض، وكان أسلوباً يخلق احتذاؤه بكل مصلح.
ثم صار المسلمون عشرة، ثم تمّوا أربعين، فخرجوا يعلنون الإسلام بمظاهرة لم تكن عظيمة بعددها ولا بأعلامها وهتافها، ولكنها عظيمة بغايتها ومعناها، عظيمة بأثرها، عظيمة بمن مشى فيها: محمد وأبو بكر وعمر وعلي وحمزة، أربعون لولا محمد ‘ لعاشوا ولماتوا منكَرين مجهولين، فلما لامسوه وأخذوا من نوره وسرت فيهم روح من عظمته صاروا من أعلام البشر، وصارت أسماؤهم مناراً للسالكين. فلما صاروا ثلاثمئة خاضوا المعركة الأولى في الدفاع عن الحق؛ معركة بدر. فلما بلغوا عشرة آلاف فتحوا مكة وطهّروا الجزيرة العربية. فلما بلغوا مئة ألف فتحوا الأرض!
فتحوا الأرض، فلما انقادت لهم فتحوا القلوب بالعدل، والعقول بالعلم، فما عرفت هذه الدنيا أنبل منهم ولا أكرم، ولا أرأف ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم، ولا أجلّ ولا أعظم!
فإذا كان فى العظماء من كشف مكروبات، فمحمد قد كشف أبطالاً. وإن يكن فيهم من داوى مريضاً، فمحمد قد داوى أمماً. وإن يكن فيهم من برع في الحرب وفي فن القتل، فحمد كان فنّه الإحياء والهدى. وإن يكن فيهم من ألّف قصصاً وروايات، فالذي صنعه محمد ‘ لو تخيّله قاصٌّ أو أديب لكان أكبر الأدباء، فكيف بمَن أقامه من الحس لا الوهم، والحقيقة لا الخيال؟ وإن يكن فيهم من أفضل على أمة، فمحمد قد أفضل على الناس كلهم؛ فما على الأرض أمة لم تستضئ بنور دعوته، ولم تقتطف من ثمار حضارته، ولم تنتفع في قضائها بشريعته.
أفبلغ بالناس أن ينسوا فضل محمد عليهم؟
إن ينسَ الناس فما نسي التاريخ، وإن تسكت الألسنة تروِ الصحف: سلوا النظامية والمستنصرية والأزهر، سلوا دجلة كم أُلقي فيه من نتاج أدمغتنا، سلوا الأندلس كم أُحرق فيها من ثمرات عقولنا، وما نقصت كتبنا بما أُغرق وما أُحرق. سلوا جامعات الغرب: ألم تَعِش على كتب ابن سينا والإدريسي والبيروني دهراً طويلاً؟ سلوا تلك البيض: هل جُرّدت إلا دفاعاً عن الحق والفضيلة والمثل الأعلى؟
بل سلوا قلوبكم وما صنع فيها الإيمان، ترَوا أن هذا الإرث القليل الذي وصل إليها يثبت أن الإسلام هو أعظم شيء عرفه هذا الوجود. إننا -برغم ما صنع الدهر بنا وما صنعنا بأنفسنا حين أهملنا شريعتنا- لا نزال نحتفظ بعزة المؤمن الذي يعلم أن الأجل محتوم، فلا يخاف أن يعاجله الموت إن صدع بحق أو خاطر في واجب، وأنه لا إله إلا الله، لا يضرّ ولا ينفع سواه، فلا يخاف مع الله أحداً.
قم حيثما شئت من ديار العربية التي قبست من نور محمد ‘ ثم ادعُ باسم الدين وباسم العرض، تَرَ كيف تُقتحَم الأهوال وتُستسهَل الصعاب. بل ادعُ بذلك في بَوادي نجد وفيافي اليمامة تلبِّك رمالها وتنقلب فرساناً إن لم تجد من الناس ملبياً.
لا تعجبوا يا سادة؛ فإن من معجزات محمد ‘ أن جعل أتباع دينه كلهم -على رغم أنوفهم- أبطالاً!
*   *   *
إننا اجتمعنا في محبة محمد، ولكن منا من لا يعرف -على حقيقته- محمداً ‘!
لم يكن محمد ‘ عبقرياً فحسب، وإن آتاه الله كل صفات العبقريين. ولم يكن نبياً فقط، وإن جعله الله خاتم النبيين. بل كان بشراً عظيماً أوحي إليه بدين عظيم، فهو -بشراً- أعظم البشر على الإطلاق: في كبر عقله، ونبل نفسه، في سمو خلاله، في أحاديثه وأقواله، في آثاره وأعماله. إنه ليس من العظماء (أو قلَّ فيهم) من عُرفت حياته بدقائقها وتفاصيلها كمحمد ‘، فانظروا أيّ خلق عظيم لم يتخلق به، أيّ موهبة لم يُعطَها، أيّ مكرُمة لم ينلها؟
وهو-نبياً- أعظم الأنبياء على الإطلاق؛ جاءت الشرائع الماضية بأحكام تصلح لزمان واحد، وكانت شريعته قواعدَ وأسساً تُستخرَج منها الأحكام التي تصلح لكل زمان، شريعة عقل لا تخاف العقل ولا تجزع من اعتراضاته، بل تواجهه وتتحداه وتدعوه إلى المناقشة مهما كان مُدّعاه. لما قالوا المقالة الشنعاء قال لهم: {أإلهٌ مَعَ الله؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ}: تعالوا ناظرونا، نقرع دليلكم بدليلنا، وما نغلبكم إلا بقوة البرهان. شريعة تدعو إلى العلم النافع، رياضياً كان أو طبيعياً أو اجتماعياً، وترغّب فيه وتحضّ عليه. شريعة جمعت ديناً وعبادة، وتشريعاً وسياسة، وأخلاقاً واجتماعاً. إن الدنيا بغير شريعة محمد ‘ جسم بلا روح، ولفظ بلا معنى!
فما بالنا نظلم الإسلام ونظن به العصبية والجمود؟ ما بالنا نستحيي به ونحسبه يعود بنا إلى الوراء، والإسلام -مُذ كان- دين سماحة وعقل وتقدم؟ ألا لقد آن لنا أن نفهم الإسلام على وجهه، وأن نعرفه على حقيقته، ونأخذه من منابعه لا من أفواه أشباه العلماء ولا من أشباه الكتب، وأن نعتزّ بالانتساب إليه وأن نرفع الرأس فخراً، وأن نجعله إمامنا في حياتنا.
*   *   *
يا سادة:
إننا طالما احتفلنا بهذه الذكرى ونحن محزونون متألمون، أدنى إلى اليأس وأبعد عن الأمل، فلنحتفل بها اليوم ونحن فرحون مستبشرون، فقد بدا لنا النور، ودنت الأماني، ولاحت أعلام الوحدة ودقت طبولها. وقد طالما هجعنا ومرّت بنا ليالٍ حوالك طِوال، فَتَرَتْ فيها الهممُ وخَبَت العقول، ولكن وقت النوم انقضى، وأذّن مؤذّن النهضة: حي على الفلاح... فنفضنا عن أنفسنا غبار الأحلام... ونهضنا.
لقد كُتب على المسلمين أن يذِلوا، ولكنها مرة واحدة، وقد مرّت ولن تعود!
لقد انبلج الفجر، وانتهى الليل، وبدا نور النهضة، نور الاستقلال والوحدة، فأقسموا في هذا البيت الأطهر، في هذا اليوم الأنور، أنكم لن تناموا ولن تَنُوا ولن تضعفوا؛ فما ينال المجدَ نائمٌ ولا وانٍ ولا ضعيف!
إن محمداً علمنا معنى العزة والكرامة، وعرّفنا قيمة العقل والعلم، وشرع لنا شرعة الإيمان والعدل والإحسان، فلنعد إلى ما شرع الله على لسان محمد ‘؛ نفتح في التاريخ صفحة مجد وسمو ونبل كالتي كتبها أجدادنا.
ألا إنها كلمة صدق؛ ألا إنه لا يَصلح آخرُ هذه الأمة إلاّ بما صلُح به أولها. ألا إنما أعز الله العرب بالإسلام، فإن ابتغوا العزة بغيره ذلّوا.
فارفعوا راية القرآن، ثم اعملوا شباباً هم في الحكمة شيوخ، وشيوخاً هم في العزيمة شباب، جحافل من جنود الحق تصل يومَ القادسية واليرموك بأيام الغوطة والريف وجبل النار. اعملوا للوحدة الكبرى، فإنها حياتنا لا حياة لنا إلا بها. أقيموها على صخرة الإسلام الراسية، لا تعبث بها الزعازع ولا تزلزلها الأعاصير.
إنها قد ضجّتْ في العروق الدماء، وتلوّتْ في الأغماد الصفائح، فانشروا اللواء، وسوقوا الخميس، لتُعلِموا الإنس والجن أنه لا يزال في عروقنا ذلك الدم الذي نضح الأرض، وفي قلوبنا ذلك النور الذي أضاء الدنيا، وفي سواعدنا ذلك العزم الذي هدّ بروج الطغيان وتهاوت له التيجان، وفي أفواهنا ذلك النشيد الذي علا في كل مكان، فكانت تخشع له الرواسي وتطأطئ الشامخات: >لا إله إلا الله... والله أكبر<!
*   *   *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين