هجرة إلى وطن بديل

دخلت على صديقي -الذي بدأ عقده الخامس من العُمر، والذي يشغل منصبا مرموقا ويحصل على راتب مغرٍ- فوجدته ممسكا بقلمه وعلى مكتبه ورقة كبيرة مرسوم عليها خريطة العالم.

ابتسمت وقلت له: هل تخطط لرحلة ترفيهية قادمة؟

رفع رأسه وقال بجِديَّة: أبحث عن وطن بديل.!

ثم استطرد قائلاً: غادرت موطني الأصلي منذ أكثر من عشرين عاما بحثا عن الرزق، حططت الرحال في هذا البلد العربي، حققت آمالي المادية، وبعد كل هذا العمر لم يعد وطني هو الوطن الذي كنت أعرفه وقت تغريبتي الأولى، وأنا هنا اسمي "وافد"، في أحسن أحوالي ضيف مرحب به، وأحيانا ضيف ثقيل غير مرغوب فيه .

وللإنصاف هم يعتبرونني ضيفا، وأنا أيضا قدمت هنا كضيف، كانت عيني دوما على طريق العودة لموطني، أحسبها سنينَ معدودة أجهز فيها سكنا وعملا في وطني، كنت أشعر دوما أنني في وضع مؤقت، ومع الوقت وتغضُن الجلد وظهور التجاعيد وترهل العضلات وغزو المشيب كانت عيناي تترقرقان بالدموع، وأنا أستمع لفيروز تغني: "فزعانة يا قلبي اكبر ب ها الغربة وما تعرفني بلادي" .

واليوم أبحث عن غربة جديدة وأنا في خريف العمر، غربة تختلف كلياً عن التغريبة الأولى، إنها هجرة بلا نظر لطريق العودة، إنها بحث عن وطن بديل.

تسألني: ولماذا لا تعود لوطنك بعد أن أصبحت تمتلك فيه ضياعا وبيوتا؟

أقول لك: موطني ملؤه خيرات؛ بحار وأنهار وصحارٍ، ومروج وسهول ووديان، بمقدورك أن تعيش في وطني سلطان زمانك.. بشرط أن تمتلك وفرة من المال، وفقرا في الشعور والإحساس.

أما مثلي ممن ابتلاه الله بوفرة في الإحساس والشعور؛ فلن يهنأ في وطن تفوح فيه رائحة الطبقية والظلم والفقر والعوز .

اكتشفت بعد هذا العمر، وبعد ما جمعته من ثروة أنني أحتاج لوطن يحفظ إنسانيتي، وطن يحملني في شيخوختي، وطن لا يتبرم مني إن خرجت عن القطيع وانفردت برأي أو موقف، وطن يحفظ لأبنائي حقوقهم الأساسية من تعليم وصحة وخدمات.

أنا أستشعر تماما قسوة الإقدام على بداية جديدة في هذا العمر، في مكان جديد ولغة جديدة ومجتمع وثقافة مختلفة، أستشعر تماماً قسوة مفارقة الذكريات ومألوف العادات، قسوة جربتها من قبل وأنا في منتصف العمر حين فارقت موطني الأصلي، ولكن وقتها كنت في مقتبل العمر يقودني أمل عريض يدفعه فتوة وشباب وطاقة، وكانت نقلتي إلى بلد عربي أشترك معه في اللغة والدين ومعظم العادات .

أما الآن فأنا مقدم على مغامرة في آخر العمر.. ولكن ما حيلتي؟!

حتى لم أعد أعرف هل هجرتي هجرة طوعية أم قسرية؟ هل هي طوعية كوني اخترتها وسأسافر لها بوثائق رسمية وطائرة مريحة، أم هي قسرية لأنني لم أعُد أجد إنسانيتي في وطني؟!

إذا خيروك بين أن تكون أبكم الفم مغمض العينين تمشي خلف القطيع وتضحي بإنسانيتك وحريتك، وبين أن تغادر وطنك.. فماذا ستختار؟ هل ستحتار؟

نعم ستحتار بين خيارين، كلاهما مر؛ بين معايشة القهر والعجز والتثاقل والالتصاق بالأرض، وبين مفارقة جزء من روحك يسكنه الأحباب والأهل والذكريات.

وبعد طول حيرة، اتخذت القرار، وهاأنا أفتح الخريطة بحثاً عن وطن بديل.

ترقرقت الدمعات من عينه.. وساد بيننا الصمت.. ثم مضى كل إلى سبيله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين