نماذج نورانية من الإيثار

 

الحسن يرسم لوحة فريدة 

 

بعد ستة أشهر قضاها في الخلافة وحاول فيها أن يقتفي أثر الخلفاء الراشدين قبله ويقتدي بهم أحسّ الحسن بن علي رضي الله عنهما أن كثيرا ممن حوله يدفعونه إلى قتال أهل الشام ليس نصرة للحق وإنما تعصبا له وأن أهل الشام ما زالوا على رأيهم الذي اعتنقوه منذ أن قُتل عثمان رضي الله عنه مما يعني أن الظروف مهيأة لإسالة كثير من الدماء فآثر أن يتنازل عن الخلافة ويجمع المسلمين على معاوية رضي الله عنه.

يقول صاحب كتاب عون المعبود: وَسَارَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة مِنْ الشَّام إِلَى الْعِرَاق وَسَارَ هُوَ إِلَى مُعَاوِيَة فَلَمَّا تَقَارَبَا رَأَى الْحَسَن رَضِيَ الله عَنْهُ الْفِتْنَة وَأَنَّ الأمْر عَظِيم تُرَاق فِيهِ الدِّمَاء وَرَأَى اِخْتِلاف أَهْل الْعِرَاق وَعَلِمَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّهُ لَنْ تُغْلَب إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى يُقْتَل أَكْثَر الأخْرَى فَأَرْسَلَ إِلَى مُعَاوِيَة يُسَلِّم لَهُ أَمْر الْخِلافَة.

وقال لمن حوله: وإني ناظر لكم كنظري لنفسي وأرى رأيا فلا تردوا عليّ رأيي إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة.

تنازل عن الخلافة حقنا للدماء وجمعا لكلمة المسلمين فهدأت النفوس الثائرة وتراجعت نُذُر الفتنة واستتبّ الأمن والتَأمَ شمل الأمة من جديد حتى سمّوا ذلك العام عام الجماعة وتحققت بذلك نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: (ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) _ رواه البخاري.

ضحّى السبط بمنصبه الذي تولاّه باختيار المسلمين إيثارا للمصلحة العامة فخدم الإسلام أيّما خدمة وأعطى للأمّة درسا عمليّا في الإيثار في أعلى مراتبه وأبهى حُلله وأين المنصب _ ولو كان هو الخلافة _ من وحدة الكلمة واستتباب الأمن والتعافي من الفتن ؟ولم يزد هذا الموقف الحسني الكريم صاحبه _ رضي الله عنه _ عبر التاريخ سوى رفعة وذكرًا حسنًا لأنّه كان درسا بليغا للقادة والأمم.

o خالد على نفس الدرب:

ماذا نسمّى صنيع خالد رضي الله عنه عندما عزله عمر رضي الله عنه سوى التضحية والإيثار؟ ألم يخلع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لقب سيف الله المسلول ؟ ألم يخُض جميع المعارك منذ أسلم فلم تُنكَّس له راية ولا انهزم جيشٌ قادَه؟ يأتيه قرار الخليفة بتنحيته من قيادة الجيش وهو في ساحة القتال ضدّ امبراطورية الروم المنيعة ليُولّيَ مكانَه أحدَ جنوده فماذا كان ردّ فعله؟ انتقل ببساطة من مركز القيادة إلى صفّ الجنود وواصل المعركة كانّ شيئا لم يكن ...لماذا؟ لأنّه يقاتل في سبيل الله سواء كان قائدا أو جنديّا.

لكن هل من السهل على الناس أن يفعلوا مثل خالد ؟ لا من غير شكّ لكنّ خالدا آثر رضا الله تعالى على المكانة القيادية وضحّى بمصلحته الشخصية في سبيل دينه ومبدئه لأنّ نفسه زكّتها التربية الإيمانية وصقلتها مدرسة الأخلاق الرفيعة في المحضن النبوي الهادي.

o أمّا قيصر فينهزم:

ليس تنازل السحرة عن المكانة ولا الحسن عن الخلافة ولا خالد عن القيادة بالأمر الهيّن على النفس الإنسانية والموفَّق من وفّقه الله فهذا قيصر عظيم الروم يبلغُه خبر ظهور النبي صلى الله عليه و وسلم ويأتيه خطابه فيتحرّى الأمر ويدقّق فيه ويطرح على أبي سفيان _ وهو مشرك _ أسئلة عالم خبير بالأديان والسنن الاجتماعية ويتأكّد من نبوّة محمد صلى الله عليو وسلم ويقول لزعيم قريش على مسمع من عظماء الروم: فإن كان ما تقول حقّا فسيملك(أي الرسول صلى الله عليه وسلم) موضع قدميّ هاتين فلو أني أعلم اني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدميه _ رواه البخاري.

أليس كلام قيصر دليلا على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لكن الملأ من قومه رفضوا الانسياق خلفه وصاحوا وهاجوا وماجوا وتشبّثوا بدينهم فتراجع الرجل وآثر عرش الملك على مقعد الجنّة وأغوته الفانية عن طلب الباقية ورسب في الامتحان وكان _ رغم علمه وحنكته _ أقلّ من أن يتجاسر ويضحي بملكه ويؤثر الدين الذي تأكّد من صدقه ولو خسر كرسيّ الرئاسة.

oخاتمة: أحسنُ ما يلخّص هذه الدرجة الفذّة من الإيثار ما ذكره الإمام ابن القيّم وهو يتحدّث عن الأسباب الجالبة للمحبّة فقد قال في السبب الرابع: إيثار محابّه (أي الله تعالى) على محابّك عند غلبات الهوى والتسنّم إلى محابّه وإن صعُب المرتقى.

هذا عين ما فعله السحرة والحسين وخالد ولم يقدر على فعله قيصر الروم ذلك أنّ هذا تسيّره مصالح وأنانية أمّا أولئك فيقودهم إيمان ويحدوهم رجاء في دخول الجنّة وليس الإيثار من خصال العصر الأوّل وحده بل هو روح يسري في أفذاذ الرجال المؤمنين في كلّ زمان ومكان وما قلّة عددهم إلاّ لتميّز هذا الخلق العظيم الذي نحن في أمسّ الحاجة إلى توافره في أيّامنا هذه لنواجه الصعاب الحضارية ونحفظ الأمة ونخدم الدين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين