نكت في كلام الخضر عليه السلام

قد يُقال: لِمَ قال الخَضِر عليه السلام في خَرْقِ السفينة: ﴿فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا﴾ [الكهف: ٧٩] وفي قتل الغلام: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا﴾ [الكهف: 81] ، وفي إقامة الجدار: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ وهل هو تفنُّنٌ في العبارة كما قيل؟ أو له حِكْمة؟

والجوابُ: أن لذلك حِكْمة، هي -والله أعلم- أنَّه لما كان خرق السفينة عيبًا -بحسب الظَّاهر- نسب إرادته إلى نفسِه، ولما كان الباعث على قتل الغلام خشيته أن يرهق أبويه -وهو باعثُ ديني شريف- ناسب أن يقابلها بإرادته خلفًا عنه خيرًا منه لهما، فيكون الباعث على القتل والغاية منه متحدي المصدر، ولشرف الباعثِ عبر بنون الجمع في ﴿فَخَشِينَآ﴾ ،﴿فَأَرَدْنَا﴾ ولما كانت إقامة الجدار خيرًا محضًا نسب إرادتها إلى الله تعالى.

وهذا هو الأدب الواجب، أن ينسب العبد الخير إلى الله، والشَّر إلى نفسه. قال تعالى:﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 79] ([1]) وفي الحديث «والخير كله بيديك والشر ليس إليك». هذا ما ظهر لي في توجيه كلام الخضر، مما فتح الله به علي، وله الحمد.

الفرق بين: اسطاعوا، واستطاعوا

وقع السؤال عن الحِكْمة في قول الله تعالى في سدِّ ذي القرنين: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: 97] .

والجواب: أنَّ الحِكْمة -مما يظهر لي والله أعلم- أن الظُّهور على السدِّ لا يحتاج إلا إلى محاولة بالأيدي والأرجل، أو وضع ما يرقى عليه كالسُّلم، فلذلك عبر فيه باسطاعوا، ولكن نقبه يحتاج فيه إلى مُعدِّات النَّقب، كالفئوس والمعاول، فعبَّر فيه باستطاعوا، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، كما تقرَّر في علوم العربية.

ولهذا -والله أعلم- لمَّا أراد الخضر أن يُبيِّن لموسى سرَّ تصرُّفاته، قال له:﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 78] فعبَّرَ بتستطع؛ لأن موسى في سرعته بالإنكار عليه، وشدة تشوفه لمعرفة حِكْمة تصرُّفاتِه، لا يقدر على الصبر إلا بمشقَّةِ وتكلُّفٍ، وهو حين يحاوله، يحاول أمرًا يخالف طبعه، فكان التعبير بلم تستطع يناسب حالَه، ولمَّا اطمأنتْ نفسُه إلى معرفة أسرار تلك التَّصرُّفات التي أثارتْ إنكاره، وسَكَنَ إليها، صار الصبر ميسورًا له، لا يتكلَّف فيه مشقة، فناسب أن يقولَ له:﴿ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا﴾ [الكهف: ٨٢].

فمَنْ قال من المفسِّرين أنه جمع بين اللُّغتين، لم يتفطَّن لهذه الحِكْمة الدقيقة، والحمدُ لله على ما ألهم وعَلَّمَ.

من كتاب:" خواطر دينية"

(1) ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ﴾ [النساء: 79] أي: نعمة كخصب ورخاء وغنى فمن فضل الله، ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ﴾ أي: نقمةٍ كجدبٍ وبؤسٍ وفقرٍ، فمن نفسك أي: بسبب عِصيانك، وليس المراد بالحسنة والسيئة: الطاعة والمعصية، كما يفهم كثيرون خطأ، انظر كتابنا "بدع التفاسير".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين