نقض منهجيّة القراءة المعاصرة للنّصّ القرآنيّ عند المهندس محمد شحرور(7-7)

الخاتمة والنتائج:

- إن المنهجَ الذي اعتمده المهندس شحرور - في قراءته المعاصرة وبخلفيته الفكرية والفلسفية، وبآليّاته المنهجية الوظيفية - غيرُ قادر على قراءة النص القرآني بمفهوم القراءة التي يؤسسها القرآن نفسه بأبعاده المقاصدية.

- إن البحث في الدلالة المعجمية للمفردة القرآنية على طريقة اللسانيات المعاصرة من غير اعتبار الدلالات الشرعية غير وافٍ بهذا الغرض، على اعتبار الاختلاف الجوهري الموجود بين النص الأدبي والنص القرآني، وعلى اعتبار الفرق بين النص ذي المصدر البشري والنص ذي المصدر الرباني الإلهي.

- ما قدمه المهندس شحرور في قراءته المعاصرة لم يكن أكثر من تنسيق جديد للتفاسير القرآنية على أساس الانتقائية اللغوية لمعنى المفردات، فلم يقدم جديدًا غير الشكل، فكانت الأزمة في تلك المقاربات منهجية كما هو الشأن في معظم المقاربات التجديدية في الفكر الإسلامي، تهتم بالعناوين والشكل دون الغوص في الإشكال المنهجي.

- تبقى القراءة النَّسقيَّة هي القراءة الكفيلة بالوصول إلى كنه معاني القرآن، إذ إن اكتشاف أحكام آيات القرآن الكريم وتفصيلها، يتضح من خلال الدراسة البنائية للقرآن الكريم، الذي لا يُفصَل بين جزئياته وكلياته. 

- إن المحاكاة الحرفية التي يقع في مصيدتها كثير من العلمانيين العرب والتقليد المنهجي عند استيرادهم لحركة التنوير الغربي - بنفس التحقيب التاريخي والأدوات الاجتهادية والمقاربات الفكرية بين الدين والعلم - يجعل من رواد حركة التنوير العربي مجرد أتباع حرفيين للغرب، يتكلمون من منطلق الانبهار والانهزام الحضاري.

- من المقرر عند علماء العقيدة أنه لا يمكن للنص الشرعي أن يخالف حقيقة علمية ثابتة، إلا إذا كان النص غير صحيح، أو الحقيقة العلمية ما زالت في طور النظرية الظنية، أو أن معنى النص غير صريح فيقع الخطأ في تفسيره، مما يجعل المعركة المفترضة عند أصحاب القراءة المعاصرة بين الدين والعلم منتهية.

- لا شك أننا بحاجة إلى القراءة التدبرية للقرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه، وصحيح أن كثيرًا من التفاسير الجديدة تكرر نفسها وتجتر ما مضى من تفاسير وقراءات، ولكننا بنفس الوقت نحتاج قراءة منضبطة منهجيًا مع كليات الدين وأصول الشريعة، وليست القراءة الفوضوية التي تلوي أعناق النصوص وتؤول المحكمات وتنسف الثوابت وتعطل الفرائض وتستبيح المحرمات. 

- القراءة المعاصرة التي يتبعها شحرور وأشباهه هي مرحلة تكتيكية للوصول إلى القطيعة مع النص، ربما لا يدرك المفتونون بأصحاب القراءة المعاصرة التأويلية للنص والوحي ما الفكرة الدافعة لأصحاب هذه الدعوة؟ وما هدفهم النهائي الذي ينطلقون إليه؟

وأنا هنا لا أحلل تحليلا، فقد وجدت حوارات محمومة بين شباب علمانيين متحمسين يريدون العبور بالشرق من القرون الوسطى إلى مرحلة عصر الأنوار والقطيعة مع التراث والنص بدون الحاجة إلى المرور بمرحلة الإصلاح الديني، التي يتمسك بها بعض حكماء العلمانية ودهاتها، الذين يرون أن كل محاولة من المثقفين العرب للقفز على مشكلة التراث من دون خوض معركتها والحفر فيها ستبوء بالإخفاق الذريع، ولا حل للمشكلة التراثية بزعمهم إلا من خلال خوضها بكل صراحة ووضوح، فلا يمكن العبور بالعالم العربي الذي يعيش بعقلية القرون الوسطى - حسب زعمهم - والقفز إلى عصر الأنوار دون المرور بعصر النهضة والإصلاح الديني، كما حدث في أوروبا عندما دشن مارتن لوثر بداية عصر الإصلاح الديني وقيام حركته الاحتجاجية البروتستانتية، ومن ثم انتقلت أوروبا إلى عصر الأنوار وصولًا إلى العصور الحديثة التي أوجدت القطيعة مع الدين والنص المقدس نهائيًا. 

لهذه الأسباب يرى هذا الفريق من العلمانيين العرب الدهاة: أنه لا مندوحة عن خوض معركة التراث، ولا بد قبل خوضها من تحضير السلاح المناسب لها؛ والأدوات المكافئة للمواجهة، وهو منهج أبستمولوجي، يخرج بقراءة جديدة للنص تنتهي إلى الالتقاء الكامل مع التطبيقات الغربية للحداثة، من خلال تفكيك بنية النص من داخله وإعادة تركيب معانيه من جديد.

من هنا كان البحث عن المناهج التي حاكم فلاسفة الغرب من خلالها نصوصهم المقدسة، وهو منهج اللسانيات وتاريخانية النص (الأنثروبولوجيا)، وهو المنهج الذي استورده أركون وشحرور من الغرب الذي عاش مأزقَ لا معقولية النص، ولا تسامحية المعتقدين.. فكان التأويل هو المخرج لعقلنة النص، وإرساء قواعد التعايش بين المؤمنين، ومن ثَمَّ إيجاد عقد اجتماعي علماني يضمن السلم الأهلي الذي خرج بأوروبا من الحروب الدينية المذهبية إلى عصر الحداثة.

وكل ما فعله هؤلاء الوكلاء المستورِدون أنهم حاولوا تطبيق التجربة الأوربية على النص القرآني، بمحاكاة حرفية لما جرى في الغرب، وفي ذلك يقول أحد كبار العلمانيين المدعو هاشم صالح: (ما معنى أن أقول أنا إنسان متحرر تنويري؟ لا علاقة لي بكل هذا التخلف والتعصب، أنا ضد التراث المكرور والممل، لقد حللت مشكلتي مع الماضوية، وأصبحت ليبراليا أو ماركسيا أو ملحدًا، بل أنا شخص تجاوزت الحداثة إلى ما بعد الحداثة!!)، ثم يعلق على هذه المقولة فيقول: (هذا هراء ومراهقة فكرية)، إذ يعتبر كل هذا الكلام بلا معنى، إذا لم نخض معركة الماضي وإزالة الرواسب، لأنه - بحسب هاشم - لا معنى لأن أقول: (إن التراث الماضوي لا معنى له، إذا كان ثلاثة أرباع الشعب متعلقين به ويعيشون عليه).

هنا يقول جماعة القراءة المعاصرة: (إنه ينبغي المشي مع الشعوب خطوة خطوة، على طريق التحرير، لكي نصل بهم إلى نهاية المطاف وهو التأويل العقلاني للدين؟ وتصالح الإيمان مع العقلانية) (1).

وهذا ما فعله فلاسفة التنوير في أوروبا، عندما دخلوا صراعًا مع الأصوليين المسيحيين، من داخل دائرة النص المقدس وليس من خارجه.

لكن الآن وقد وصلت أوروبا إلى العصور الحديثة، فقد تجاوزت معركة التراث والنص وانتهت منها، وصارت بالنسبة لها مسألة محسومة مقطوعًا بها.

من هذا الكلام نخلص لعدة استنتاجات:

- مدى ما يستنبطنه العلمانيون العرب لمعركة العقل والدين التي وقعت في الغرب بين الفلاسفة والكنيسة، ومحاولة خوضها بحذافيرها في الشرق بين العلم والإسلام، على اعتبار أن المسلمين يعيشون في مرحلة القرون الوسطى، وأن مشكلة الشرق هي مع الإسلام، كما كانت مشكلة الغرب مع الكنيسة، مع أنه لا وجود لمفهوم الكنيسة والسلطة الثيوقراطية عند المسلمين ولا يوجد نص يقيد العقل والبحث والعلم في القرآن الكريم.

- إن القراءة المعاصرة للتراث والنص الإلهي، التي يدخل حلبتها بعض العلمانيين، هي بالنسبة لهم ليست أكثر من مرحلة انتقالية، وخطوة تكتيكية لهدف استراتيجي ومرحلة ضرورية لا بد منها لنقل المجتمعات المسلمة المتعلقة بالتراث إلى عصر الأنوار من خلال تأويل النص وليس تجاوزه، لأن تجاوز النص سيثير المجتمعات المسلمة على الحداثيين والتنويريين، ويحوِّل كل جهود التنوير والتحديث إلى هشيم، مما يؤدي إلى دخولهم في صراع مع المجتمع، ينتهي بكسب الظلاميين والمتطرفين الأصوليين للشارع، باعتبارهم حماة الأصالة والهوية هناك، وينتهي الأمر بالنكوص إلى الماضوية من جديد، وإجهاض دعوات التنوير، والإغراق في الظلامية والقرون الوسطى.

وللمزيد من المراجع التي تتحدث حول الموضوع:

1- كتاب (بيضة الديك) ليوسف صيداوي، وهو نقد لغوي لكتاب (الكتاب والقرآن)، المطبعة التعاونية، وقد تناول فيه أباطيل شحرور من الناحية اللغوية فقط كمتخصص في اللغة العربية. 

2- (الماركسلامية والقرآن) أو (الباحثون عن عمامة لدارون وماركس وزوجة النعمان، قراءة في دعوى المعاصرة) للمحامي محمد صياح المعراوي، طبعة المكتب الإسلامي.

3- (تهافت القراءة المعاصرة) لمنير محمد طاهر الشواف، دار قتيبة للطباعة والنشر.

4- (الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن) دراسة نقدية لماهر المنجد، دار الفكر المعاصر. 

5- (بؤس التلفيق) نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، يوسف سمرين، طبعة مركز دلائل السعودية.

6- (التحريف المعاصر في الدين) مكيدة الماركسية والباطنية المعاصرة تحت شعار قراءة معاصرة للنصوص الإسلامية، للمؤلف عبد الرحمن حسن حبنكة، طبعة دار القلم دمشق.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة السادسة هنا 

=====

(1)- الانسداد التاريخي لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي، هاشم صالح، أنظر من ص 43-44طبعة دار الساقي بيروت

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين