نقاء السر والعلانية

 

 

إنَّ علاج الأمور بتغطية العيوب وتزويق الظاهر لا جدوى منه ولا خير فيه، وكل ما يحرزه هذا العلاج الخادع من رواج بين الناس أو تقدير خاطئ لن يغير شيئاً من حقيقته الكريهة. ومن هنا لم يحفل الإسلام بالظواهر إذا كانت ستاراً لتشويهٍ مَعيبٍ أو نقصٍ شائن فما قيمة المظهر الحلو إذا كمن وراءه مخبر مُرٌّ؟.

ومن قديمٍ غالى العرب بجمال الحقيقة، ولم يسمحوا للعنوان – وإن لم يكن كفؤها – أن يخدش من قدرها، فقال قائلهم:

إذا المرءُ لم يُدَنِّس من اللُّؤْم عِرْضَه = فكلُّ رداء يَرتديه جميلُ

على حينَ حقروا جمال الملامح إذا كانت النفس خبيثة والخلق وضيعاً، فقال الشاعر:

على وجه ميٍّ مسحةٌ من ملاحة = وتحت الثياب الخزيُ لو كان باديا

ألم تر أنَّ الماء يكدر طعمه؟ = وإن كان لونُ الماء أبيض صافيا؟

من أجل ذلك، لم يعتدَّ الإسلام بتكمُّل الإنسان وتجمله إلا إذا قام هذا التسامي على نفس طيبة، وصحيفة نقيَّة، وفؤاد زكيٍ وضمير أُضيء من داخله فله سناً يهدي صاحبه إلى الصراط المستقيم.

الجمال عمل حقيقي في جوهر النفس، يصقل مَعْدنها، ويذهب كدرها ويرفع خصائصها، ويعصمها من مَزَالق الشر، وينقذها من خواطر السوء ثم يبعثها في الحياة كما تنبعث النسمة اللطيفة في وقدة الصيف، أو الشعاع الدافئ في سبرة الشتاء!.

وعندما تبلغ النفس هذا المستوى ترتدُّ وساوس الشيطان عنها؛ لأنَّها لا تجد لها مُستقراً فيها، بل لا تجد مدخلاً إليها؛ فالمرء يتجاوب مع معاني الخير والشر الطارئة عليه من الخارج كما يتجاوب جهاز الاستقبال مع الموجات الطوال أو القصار التي تُرسلُ إليه، فبحسب وضعه وانضباط آلاته على جهة مُعيَّنة، تكون طبيعة الإذاعة التي تصدر عنه. كذلك الإنسان إذا طابت نفسه أو خبثت!.

إنَّه في الحالة الأولى يحيا في جوٍّ من الخير تنحسر دونه موجات الإثم والعصيان، وذلك ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله عن الشيطان: [إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ] {النحل:99-100}.

أما في الحالة الأخرى، فإنَّ المرء يستجيب لدوافع الجريمة التي تُلحُّ عليه وتسوقه إلى مصير كئيب، وذلك قول الله عزَّ وجل: [أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا] {مريم:83-84}.

وقد طلب الله تعالى من عباده أن يُنَقُّوا سرائرهم من كل غشٍّ، وأن يحفظوا بواطنهم من كل كَدَر، وأن يتحصَّنوا من كيد الشيطان بمضاعفة اليقظة وإخلاص العمل، وصدق التوجه إليه جلَّ شأنه!. 

وأنزل سبحانه سورة كاملة تدعو إلى الوقاية من الهواجس الوضيعة والخواطر المظلمة، وتحفظ على المرء إشراق روحه ونقاوة جوهره، وإليك السورة كاملة: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ النَّاسِ(2) إِلَهِ النَّاسِ(3) مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ(4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ(5) مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ] {الناس }.

هذه الاستعاذة تصوِّر لجأ المؤمن إلى الله تعالى يحتمي بقوته ويستجير بعزَّته، أن يُبقي عليه جمال نفسه غير مَشُوب بوسوسة شيطان، ولا مَعِيب بنيَّة غدر أو خَتْل أو شر لأحد من الناس. والاستعاذة لابدَّ معها من عمل؛ فإذا قال الفلاح: أعوذ بالله من القحط! فما يُقبل منه ذلك إلا إذا كان يقوله وهو يحرث أرضه ويسقي زرعه ويتعهَّد جهوده حتى تبلغ نهايتها.

وإذا قال التلميذ أعوذ بالله من السقوط فما يغنيه هذا إلا إذا أقبل على دروسه يستذكرها وعلومه يحصِّلها ومعارفه المشتَّتة يصل قَاصيها بدانيها.

وإذا قال المسلمُ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فما يجديه هذا إلا أن يكون مُقاوماً لإغراء الشر، مُدافعاً للسيئات التي تعرض له، دائم التحليق مع معاني العبادة المفروضة عليه. أما أن يقول: أعوذ بالله، وهو مخلد إلى الأرض يتبع هواه فذلك ضرب من التناقض لا ينطلي على عالم الغيب والشهادة.

الإسلام في عالم النفس جمالٌ يَنفي القُبْح، ونظامٌ يُطارد الفوضى. والعظمة الحقيقيَّة أن يستقرَّ المرء في دخيلة نفسه على حال من السكينة واليقين ييأس معها الشيطان أن يقذف في روعه بنكر.

انظر إلى الريح العاصف، إنَّه يهبُّ على الصحراء فيثير فيها الغبار، ويهبُّ على الماء فيغضّن وجهه، ويحرك لججه، ولكنه يناوش الجبال الشم فلا ينال منها منالاً.

والإنسانُ إذا كان أمره فُرُطاً، فإنَّ وساوس الشيطان تُثير داخل نفسه زوابع لا ينتهي لها دوار ولا عكار – أي كثير الكر والهجوم - . أما يوم يحزم أمرَه وينتظمُ الإيمانُ شُؤونَه كلها فهيهات أن يهتزَّ لهجَمَات الأبالسة.

إنَّ إصلاح النفس لا يتم بتجاهل عُيوبها أو بإلقاء ستار عليها، وتجميلها لا يكون بإقامة إهاب نضرٍ تكمن وراءه شهوات غلاظ وطباع فجَّة، الحسن المحبوب أن يَستويَ الظاهرُ والباطن في نصاعة الصحيفة واستقامة السيرة: [وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ] {الأنعام:120} .

ويجب أن نعلمَ بأنَّ احتمال الخصائص الإنسانيَّة الفاضلة لا يتم طفرة، ولا ينشأ اتفاقاً، بل هو نتيجة سلسلة من الجهود المتلاحقة، والبرامج المدروسة، والإشراف الدقيق.

إنَّ الملكات العظيمة تكمن في النفس كمون الجمال والعذوبة والحلوى في البذور والبراعم. وكما تتضافر الحرارة والمياه وضروب العناية على استخراج أطايب التمر من هذه الأصول المطويَّة الضامرة، تتضافر عناصرُ البيئة الصالحة والتربية الراشدة على تفتيق المواهب العُليا في الإنسان، وإنضاج ما يُولد فَجَّاً في أيام الطفولة وعهود الحداثة الأولى، حتى يبلغ مَداه، ويصل إلى مستواه.

وكثيراً ما تعطب الثمار ويقل المحصول لفساد الجوِّ الذي أحاط بالزروع. وكثيراً ما تفسد الأجيال وتلتهم نضارتها الآفات لقصور المربين والمعلمين عن تَهيئة الجوِّ الذي تَنبت فيه الناشئة نقيَّة الفطرة مصونة النماء. والله عزَّ وجل لا يهب المعرفة والحكمة إلا إنساناً تعوَّد الإحسان في شؤونه كلها، وتمكَّن من ضبط نفسه وإحكام أمره وتسديد خطاه، ومشى على الصراط المستقيم لا تهزمه وساوس الشر، ولا تردُّه عن غايته همزات الشياطين؛ يقول الله تعالى في عبده الصالح يوسف: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ] {يوسف:22}. أي: مثل ما آتى يوسف من أفضاله جزاء اكتمال رجولته، وصدق نيته، وشرف سيرته، يؤتي مَنْ يَقْتدون به في إحسان العمل وإجمال السلوك.

والمربُّون الأوائل من علماء الإسلام لهم جهاد هَائل في قيادة النفوس إلى الحق، وتخليصها من غرائز السوء التي تثقل بها إلى الحضيض. وحبُّهم في هذه المجالات الراقية بلغ من الدقة شأواً لا نعرف له نظيراً؛ وهم يُهيبون بالإنسان أن يرتفع، ويناشدونه في حرارة وإخلاص أن يُقاوم ذرائع السقوط، ويذكرونه بأنَّه يملك – من فطرته الأصيلة – ما يستطيع به الاستعلاء.

ومن الآداب التي ذكروها نلمح أنَّهم لا يعرفون التديُّن إلا يقظةً في العقل، ونبلاً في العاطفة، وسيادة لا تلحقها ضعة، وتحليقاً لا يُدنيه إسفاف.

لقد وضعوا طرائق للرياضة النفسية تُعدُّ من أبدع الدساتير في عالم الأخلاق، وهم يوصون مدمني الشهوات بملاحظة الأمور الآتية، وهي كفيلة بتخليص أسير الهوى من براثن الشيطان، عندما يُغريه بمواقعة المعصية:

الأولى: عزيمة حرٍ يغار لنفسه، وعليها!.

الثاني: جرعة صبر يحمل نفسه على مرارتها ساعة الإغراء!.

الثالث: قوة نفس تُشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير العيش ما أدركَه العبد بصبره.

الرابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجرعة.

الخامس: ملاحظته أنَّ ما ينشأ عن الهوى من ألم أشد مما يحسه المرءُ من لذَّة.

السادس: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى، وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذَّة مرافقة الهوى.

السابع: إيثار لذة العفَّة وعزتها وعلاوتها على لذَّة المعصية.

الثامن: فرحه بغلبة عدوه، وقهره له، وردِّه خَائباً بغيظه وغمه وهمِّه، حيث لم ينلْ أمنيته.

التاسع: التفكير في أنَّه لم يخلق للهوى، وإنما هيئ لأمر عظيم لا يَناله إلا بمعصية الهوى.

العاشر: أن يكره لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه، فإنَّ الحيوان يُميِّز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أعطي العقل لهذا المعنى.

الحادي عشر: أن يسير بفكره في عواقب الهوى، فيتأمَّل كم أفاتت عليه معصيته من فضيلة، وكم أوقعت في رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذَّة فوَّتت لذات، وكم من شهوة كسرت جَاهاً، ونكَّست رأساً، وقبَّحت ذكراً، وأورثت ذماً وألزمت عاراً لا يَغسله الماء، غير أنَّ عين الهوى عمياء.

الثاني عشر: أن يتصوَّر العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصوَّر حاله بعد قضاء الوطر، وما فاته، وما حصل له.

الثالث عشر: أن يتصوَّر ذلك في حق غيره حقَّ التصوُّر، ثم ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكمُ الشيء حُكمُ نظيره.

الرابع عشر: أن يتفكَّر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشيء!.

الخامس عشر: أن يأنف لنفسه من ذلِّ طاعة الهوى، فإنَّه ما أطاع أحدٌ هواه إلا وجد في نفسه ذلاً، ولا يغترّ بصولة أتباع الهوى وكِبْرهم، فهم أذلُّ الناس بواطن، قد جمعوا بين الكِبْر والذُلِّ.

السادس عشر: أن يُوازن بين سلامة الدين والعِرْض والمال والجاه، وبين نُبْل اللذة المطلوبة، فإنَّه لا يجد بينهما نسبة ألبتة، فليعلم أنه من أسفه الناس ببيعه هذا بهذا.

السابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوِّه، فإنَّ الشيطان إذا رأى من العبد ضعفَ عزيمة، وسقوط همة، وميلاً إلى هواه، طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى، وساقَه حيث أراد، ومتى أحسَّ منه بقوَّة عزم، وشرف نفس، وعلو همَّة، لم يطمع فيه إلا اختلاساً وسرقة.

الثامن عشر: أن يعلم أنَّ الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء. وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة. وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصَدَّه عن الحق. وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قِسْمة الجَوْر.

وإن وقع في الولاية والعَزْل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه ويَعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقُربة، فما قارن الهوى شيئاً إلا أفسده.

التاسع عشر: أن يعلم أنَّ الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنَّه يطيف به ليعرف أين يدخل عليه حتى يفسد قلبه وأعماله، فلا يجد مَدْخلاً إلا من باب الهوى فيَسْري منه سَرَيان السُّمِّ في الأعضاء.

العشرون: أن يتذكَّر أنَّ مخالفة الهوى تُورث العبدَ قُوَّة في بدنه وقوَّة في لسانه.

وأنَّ أغزر الناس مُروءة أشدُّهم مخالفة لهواه، وأنَّه ما من يوم إلا والهوى والعقل يَعْتلجان، فأيهما قوي على صاحبه طَرَده وتحكَّم وكان الحكم له، وأنَّ الله سبحانه جعل الخطأ واتباع الهوى قَرينَين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين.

الحادي والعشرون: أن يَعرف أنَّ الهوى تخليط ومخالفته حِمية، وأنَّه يخاف على من أفرط في التخليط وجَانَبَ الحِمية أن يصرعه داؤه. وأنَّ الهوى رِقٌّ في القلب، وغِلٌّ في العنق، وقيد في الرِّجْل، ومُتابعه أسير، فمن خالفه عتق من رِقِّه وصار حُراً، وخلع الغِلَّ من عُنقه، والقيدَ من رِجْله، واستطاع مُسايرة الصالحين. 

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الثالثة عشرة، رجب 1375 - العدد 7). 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين