نفحاتٌ من يومِ الفرقان مع الثورة السورية

د محمد ياسر المسدي

[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {آل عمران:123}  
 
تطل علينا ذكرى يوم الفرقان في شهر الفتوحات و الانتصارات والثورة السورية التي أذهلت العالم ببطولة و ثبات وتضحيات أهلها ، تدخل شهرها الثامن عشر وحال الثوار المخلصين يردد ما قاله الصحابه الكرام رضى الله عنهم لرسولهم الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ( إنا لصُبُرٌ في الحرب ، صُدُقٌ في اللقاء ، ولعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك ) ، وفي ظل ذكريات هذه الغزوة المباركة التي نصر الله تعالى فيها الحق وأهله ، نستلهم من أحداثها الدروس و العبر التي تتواءم مع معركتنا المباركة و من ذلك :
 
- أراد الله تعالى أن يؤكد لنا من خلال هذه الغزوة أن النصر الحقيقي هو بيده وحده فقال { ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة ..} وبهذا كانت عناية الله مع جند الحق من أول المعركة إلى نهايتها .
 
-         قال تعالى متحدثاً عن بداية المعركة [وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ] {الأنفال:7}  كم تمنيننا أن نتخلص من الطغاة من غير معركة و لا دماء ، ولكن الله أراد أن يعلِّمنا بأن النصر ثمنه غال .
-          كما أن فريقاً من المؤمنين لم يرغبوا خوض هذه المعركة من البداية فقال فيهم كما [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] {الأنفال:5}  [يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ] {الأنفال:6}
-         لما رمى صلى الله عليه وسلم حفنةً من الحصباء في وجوه المشركين ، فما تركت أحداً منهم إلا وأصابتَ عينيه ومنخريه قال الله تعالى مؤكداً له أن قدرة الله هي التي أصابت وجوه جميع المشركين و أن الجهد البشري ليس إلا وسيلة فقال : [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ...] {الأنفال:17}
-         لما اختار المسلمون مكان المعركة بعد المشاورة فيما بينهم لفت الله تعالى نظرهم  إلى أن هذا الاختيار إنما كان بتوفيق الله تعالى وتدبيره فقال :[إِذْ أَنْتُمْ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالعُدْوَةِ القُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ...] {الأنفال:42}
-         و لقد كان من تدبير الله تعالى في تهيئة أسباب النصر :
·        إنزال المطر على الطرفين فكان على المؤمنين رحمة وبركة فتطهروا به ، وأذهب الله عنهم به رجس الشيطان ، وصلبت به الأرض الرملية فثبتت عليها أقدامهم ، بينما كان عذاباً ووبالاً على المشركين الذين كانت أرضهم ترابية فساخت أقدامهم فيها وأضعفت تحركهم عليها .
·        ألقى الله تعالى على المؤمنين النوم حتى يشعروا بالأمان والطمأنينة بنصر الله تعالى .
·        أمدهم الله تعالى بالملائكة الذين شاركوا مشاركة حسية في المعركة فثبَّتوا المؤمنين ، وألقوا الرعب في قلوب الكافرين قال تعالى :[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] {الأنفال:12}
·        أرى الله تعالى كلاًّ من الطرفين أن عدد عدوه قليل ، ولكن شتان بين الرؤيتين ، فقد كانت الرؤية بالنسبة للمؤمنين رفعاً لمعنوياتهم ، وزيادةً في جرأتهم ، بينما كانت الرؤية من الكافرين ضرراً عليهم فلم يتأهبوا ولم يستعدوا للقاء عدوهم ، قال الله تعالى :[وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ] {الأنفال:44}
·        هذا بالإضافة إلى عامل هامٍ من عوامل النصر باشره الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه معلماً للصحابة وللأجيال المؤمنة من بعده أن لا ينسوه ، وهو الالتجاء إلى الله تعالى والتعلق به وحده فأخذ يدعو و يلحُّ بالدعاء ، و كان من دعائه " اللهم أنجز لي ماوعدتني ، اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتعبد بعد اليوم " ، ثم أغفى إغفاءةً يسيرةً وخرج وهو يقول : [سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] {القمر:45}
وفي نهاية المعركة رغم عدم تكافؤ القوى المادية فجيش الكفار أضعاف جيش المسلمين ، والعدة التي عند المسلمين أقل بكثير من عدة الكافرين ، بل إن المسلمين لما خرجوا من المدينة إلى بدر كان كلُّ ثلاثه منهم يتعاقبون على بعير واحد حتى إن الرسول صلى الله عليه سلم كان يمشي ساعتين ويركب ساعة ، بينما كان جيش الكفار أكثرُ عدداً و عدةً بكثير فقد كانوا يذبحون للطعام فقط في اليوم الواحد عشرة أبعرة ، ومع كلِّ هذا كان النصر المؤزر للمسلمين فقد استشهد منهم 17 شخصاً فقط ، بينما كانت الهزيمة النكراء للكافرين فقد قتل منهم سبعون وأُسر سبعون ، وكان زعيمُ الكُفرِ أبو جهلٍ يقولُ قبل بدء المعركة : ( والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم بها ثلاثاً فننحرالجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان .... ) وصدق قول الله تعالى فيهم [وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ...] {الأنفال:48}
نعم هكذا اليوم يخرج علينا الجيش السوري بكامل أسلحته وعتاده التي اشتريت من مال الشعب المسكين ، ليدك بها المدن ويقتل بها الشعب و يُشبهُ زعيمه الطاغية الشعب الثائر بالجراثيم ومن قبله قال طاغية ليبيا هؤلاء جرذان ثم يتهمون الجيش الحر الأبي بأنه عصابة خارجة على القانون فما أشبه قولهم بقولِ فرعون عن المؤمنين  :[إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ] {الشعراء:56}
 إننا في ظلال الحديث عن هذه الغزوة المباركة ونحن نواكب أحداث الثورة السورية الفريدة نزدادُ ثقةً و يقيناً بأن النصر من عند الله وحده وأن ملة الكفر واحدة ، فهم لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمة ، فقد رمونا عن قوسٍ واحدةٍ ، فنحنُ خلال ثمانية عشر شهراً لانسمعُ إلا جعجةً لا أثر لها في الواقعِ ، ولعل الحكمة في ذلك أن الله تعالى يريد أن لايجعل لأولئك علينا منّة ، فالثوار والجيش الحر في كلِّ يوم بفضل الله يزدادون قوة وبأساً وشجاعة وخبرة و قد فهموا اللعبة القذرة والأدوار المسرحية التي يمارسها أقطاب المجتمع الدولي وهم يرون آلاف الشهداء يتساقطون والبلد يدمر فوق أصحابه فتزداد ثقتهم بأن الله وحده هو الذي سينصرهم مهما طال الليل ، و مهما تمادى الطغيان ، فعليهم أن لا يعلقوا أمالهم إلا به تعالى ، و ليعلموا بأن للباطلِ جولة ثم يضمحل و يتلاشى ، قال تعالى " يا أيها النبي حسبك الله و مَنْ اتبعك من المؤمنين ، يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ... "
 
وهكذا يوجهنا القرآن الكريم إلى الاعتماد عليه ويوضح لنا طريق النصر في التعقيب على هذه الغزوة فيقول : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:46}
 
فليس أمامنا إلا الصبر و الثبات و المرابطة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200} .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين