نفحات العطر والطهر

هناك في مهد الإسلام الأول، وفي ظلال البيت العتيق، وحيث حشود الحجيج يحدوها النداء الرباني الخالد: "لبيك اللهم لبيك"؛ مشهد حافل عجيب، لا مثيل له قط في الدنيا كلها، مشهد رباني سامٍ كريم ننفرد به وحدنا نحن -المسلمين- عن أديان الناس جميعاً وعقائدهم، واحتفالاتهم وتجمعاتهم. وعن هذا المشهد العجب يحلو الحديث ويزكو، ويكرم ويطيب، ويخصب ويتنوع.

هناك حيث القلوب الخاشعة، والدموع المرسلة، والتوبة النصوح، والأكفّ الضارعة، هناك حيث الأوزار تلقى، والآثام تتلاشى وتبيد، والخطايا تعفّي عليها التوبة الصادقة، والأوبة الواثقة؛.. يستيقظ الشعور المؤمن في الحاج الوافد، فيهيب به أن يحذر الغفلة والكسل، والعودة إلى الإثم من جديد، ويطلب إليه أن يستأنف الطريق السويّ المستقيم بعد عودته من رحلة الحج، الطريق الراشد المبارك، الذي يبدأ بطاعة الله تعالى وامتثال أمره، وينتهي بجنة عرضها السماوات والأرض أعِدَّت للمتقين.

هناك وفي ظلال أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة مباركاً وهدى للعالمين، وفي مهد الإسلام الأول، تشرق على قلب المؤمن نفحات عاطرة طاهرة، هي العذب الزلال وأطيب، والمسك الذكي وأضوع، وتغاديه ذكريات كريمة هي الضياء، في الظلام المحلولك، وتباكره آمال عِذاب تنفي عنه اليأس، وتبث فيه القوة والعزيمة والرجاء.

هؤلاء هم ضيوف الرحمن، وفدوا إلى البيت بيته العتيق من كل حدب وصوب، يحدوهم يقين راسخ، وإيمان عميق، ورجاء لا يبلى. ها هم أولاء يغدون ويروحون، إنهم في الجو يطيرون، وفي البحر يسرعون، وعلى أثباج البحار يركبون، وفي البر يرقلون على كل ضامر، رجالاً وركباناً، من كل فجٍّ عميق يقدمون.

هجروا الأهل والولد، والوطن والعشيرة، وتركوا رفاهية الحياة ومتاعها، وفارقوا منازلهم ومتاجرهم، وأموالهم ومرابعهم. تخففوا من الهموم والأعباء، والمشكلات والمتاعب، ومن التنافس المتصل في طلب الرزق، وتجرّدوا من المطامع والأهواء، ونجوا من النفاق والرياء، واطّرحوا الترف والرخاء، وأخلصوا النية لله جل جلاله، كيف لا وهم ضيوف الرحمن وفدوا إلى بيته العتيق، متطوّعين مختارين، ملبّين ذاكرين، خاشعين تائبين!؟

لقد لبسوا الخفيف من الثياب الذي لا بد منه، فكأنهم خلعوا الدنيا مرتين، خلعوها عن نفوسهم واهتماماتهم حين تركوا كل شيء وأقبلوا على ربهم تائبين مستغفرين، وخلعوها عن أجسادهم حين لم يُبْقوا من دنياهم عليها سوى ملابس الإحرام التي لا يحتاج المرء إلا لمثلها حين يودع الحياة، ويوارى في التراب.

تواضع ضيوف الرحمن فما ثمة علو ولا كبرياء، ولا ادّعاء ولا خيلاء. وتصافحوا فما ثمة عداوة ولا شحناء. وتساووا فما ثمة أغنياء ولا فقراء. وابتسموا سعداء هانئين، فما ثمة هموم تسحقهم، ولا أحزان تطحنهم. واتقوا فما ثمة رفث ولا عصيان، ولا لغو ولا بهتان، ولا زور ولا عدوان. وتعارفوا فما ثمة تقاطع ولا هجران، ولا حسد ولا بغضاء، ولا تنافس ولا تسابق. أمّلوا أن يفوزوا بالمثوبة والمغفرة والقبول والإجابة، فما ثمة يأس ولا قنوط، كيف لا، وهم ضيوف الرحمن وفدوا إلى بيته العتيق خاشعين تائبين، ملبّين ذاكرين!؟

"لبيك اللهم لبيك".. هي النداء الرباني الذي اجتمع عليه هؤلاء الضيوف وهم مختلفون في اللغة واللون، والسحنة والزي، والعِرْق والعادة، والأرض والمزاج، مختلفون في كل شيء إلّا في الإيمان الذي جمعهم اليوم على هذه التلبية الربانية، فإذا بهم تنقلهم نقلة ضخمة، شاسعةً واسعةً بعيدة، وبهذه النقلة المؤمنة تعارفوا وتآلفوا، وتحابوا وتوادوا، وتعاونوا وتراحموا.

 سقطت بينهم جميع العصبيات المقيتة، والعنصريات الكريهة، والقوميات الضيّقة، والوطنيات المحدودة، وجَمَعَهم أنَّهم كلهم يشهدون بصحة الإسلام وعظمته، وصدق القرآن وخلوده، وأنَّهم يشهدون بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وأنَّهم جميعاً يرددون تلبيةً واحدة بلغة واحدة هي الهتاف الذي يعلو ليصل أهل الأرض بهدي السماء.

ألا ما أعظم ما صنع الإيمان بضيوف الرحمن!.. وما أكرم عطايا التلبية الربانية المباركة "لبيك اللهم لبيك"!..

لقد غدت قلوب الحجيج بها نقية كقلوب الأطفال، صافية كقلوب الطير، حانية كقلوب الأمهات، وغدت أعمالهم أبر وأصدق، وأقوالهم أعف وأنظف، وسرائرهم أصفى وأزكى، وعلانيتهم أرضى وأسمى. أما أرواحهم فسمَتْ وزكَتْ، وأما أخلاقهم فكرُمَتْ وطابت، واستبشرت نفوسهم، وأشرقت وجوههم، كيف لا؛ وهم ضيوف الرحمن، وفدوا إلى بيته العتيق ملبّين ذاكرين، متطوّعين مختارين، خاشعين تائبين!؟

*****

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين