نظرية التعارف الحضاري

كنت أنصت منذ أيام إلى محاضرة قيمة لعالم أزهري على إذاعة القرآن الكريم حول موضوع (تقزيم المفاهيم) في عقلية المسلم اليوم، فذكر مصطلحًا يعتبر من الناحية العلمية جديدًا، وإن كان الفحوى موجودًا، وهو مصطلح (التعارف الحضاري)، وهو بهذا يتماهى مع ما أطلقه الكاتب السعودي زكي ميلاد سنة 2016، وأسماه يومها (نظرية تعارف الحضارات)، وكان نشر بحثًا حولها في مجلة الكلمة العدد السادس عشر، مبينا فيه جوانب اختلافها مع نظرية هانتنغتون (صراع الحضارات)، وما تكلم عنه المفكر الفرنسي روجيه غارودي وأسماه (حوار الحضارات).

المستند:

وما لا شك فيه أن هذا المصطلح لافت للنظر وجدير ببيان مستنده وأبعاده. فأما مستنده فهو قول الله تعالى في سورة الحجرات: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

فبينت هذه الآية الكريمة أن الحكمة من تنوع البشر قوميًا وعرقيًا، أو لغةً ومكانًا، هو أن يتعرف بعضهم على البعض. وليس التعرف مجرد أن يعرف شخص فلانا، وإنما يتوسع مفهوم (التعارف) ليشمل تعرف كل فريق على لغة الآخر، وعلى ثقافته وحضارته، الذي يؤدي بلا شك إلى بناء المجتمعات بناءً حضاريًا إنسانيًا يلبي حاجاتهم ويحفظ حقوقهم.

الأبعاد:

هذا المعنى لم يكن غائبًا أبدًا عن أذهان علمائنا الأوائل الذين تلقفوا هذه الإشارة، ففتحوا عقولهم وقلوبهم على علوم الآخرين، فدرسوها، وطوروها، ومحصوها، وقدموها في قالب حضاري نادر، محولين الحواضر الإسلامية، من مثل: دمشق، وحلب، والكوفة، وبغداد، والقيروان، وقرطبة، والقاهرة، ومراكش، وفاس؛ ما بين القرن السابع الميلادي ونهاية القرن السادس عشر الميلادي؛ إلى عواصم للعلم والمعرفة يؤمها الطلبة من أرجاء المعمورة، ومحاضن للجامعات العلمية الراقية.

فترة تأسيس العلوم:

وكانت هذه الفترة هي فترة تأسيس العلم في العالم. فقبل ذلك كانت هناك معارف لا ترتقي لمرتبة العلوم، أما في هذه الفترة فما من علم مما نعرفه اليوم إلا وكان العلماء المسلمون قد أسسوه. 

بل إنهم ابتكروا علوما جديدة لم تكن معروفة من قبل، ونظرة في كتاب المستشرقة الأمانية زغريد هونكه (شمس الله تسطع على الغرب)، والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان (شمس العرب تسطع على الغرب)، وهذا خطأ. 

ونظرة أيضا في كتاب الدكتورة إيناس البهجي (تاريخ أوروبا في العصور الوسطى) تعطينا فكرة واضحة عن الرقي الإنساني الذي امتازت به الحضارة الإسلامية، وعن العلوم التي ابتكرها العلماء المسلمون، سواء في علم الطب، أو البيطرة، أو الزراعة، أو الفيزياء، او الكيمياء، أو الرياضيات. ولولا تعرفهم على ما عند الآخرين، ودراستهم له بكل جدية وعلمية وأمانة، لما انتجوا هذه الحضارة العالمية الراقية. 

حتى إنهم ابتكروا المنهج العلمي في البحث والكتابة الذي كان يعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج. 

كما أدخلوا الرسوم التوضيحية في الكتب العلمية ورسوم الآلات والعمليات الجراحية، ورسم الخرائط الجغرافية والفلكية المفصلة. 

كما أنهم ابتكروا أسلوبًا جديدًا في التأليف، هو أسلوب الموسوعات والقواميس العلمية حسب الحروف الأبجدية. 

كل هذا تولد عن (التعارف) الذي حض عليه القرآن الكريم، والذي جاء التوجيه النبوي الشريف به في قوله صلى الله عليه وسلم: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)، مع قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أنفعهم للناس).

علماؤنا مسلمون وليسوا عربا، لماذا؟

بناءً على ما تقدم، فإنَّ ما كنا ندرسه في الثانويات تحت عنوان (تاريخ العلوم عند العرب) هو خطأ بيِّن، ذلك أن غالب علماء المسلمين كانوا أعاجم ولم يكونوا عربا، ونحن لو استعرضنا أكثر العلماء شهرة سواء في اللغة أم في الطب، وحتى في الحديث النبوي الشريف، سنجد أن هؤلاء غالبهم من العجم لا من العرب، لكنهم مسلمون، إذن ينبغي أن تسمى المادة (تاريخ العلوم عند المسلمين).

ومما تجدر الإشارة إليه أن الانتساب إلى الإسلام يومها كان على نوعين: إنتساب دين، وانتساب هوية. 

فالأول خاص بالمسلمين، والثاني يشاركهم فيه غير المسلمين من سكان البلاد، وهو ما يسمى اليوم المواطنة، فالدولة الإسلامية كانت تحوي مواطنين من أديان أخرى، هؤلاء مسلمون هوية لا ديانة، وقد ساهموا أيضا في بناء صرح العلم، وكثير منهم ليسوا عربًا أيضًا، لذلك من الخطأ جعل كل هذا البناء الحضاري من صنع العرب. 

العرب لم تكن عندهم تلك الإمكانية، لماذا؟ 

يقول المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون، في الفصل الثالث والأربعين من مقدمته، (في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم)، معللا ذلك بأن العلم في بدايته كان يعتمد في أغلبه على النقل الذي لا يحتاج لأكثر من حفظ النصوص وتأديتها على وجهها، لذلك لقب حملة العلم بالقراء، لأنهم كانوا يقرؤون كتاب الله تعالى والسنة النبوية. 

ثم اتسعت دولة الإسلام، ودخل فيها غير العرب، وفسد اللسان: «فاحتيج إلى وضع القوانين النّحْويّة، وصارت العلوم الشّرعيّة كلّها ملكات في الاستنباطات والاستخراج والتّنظير والقياس، واحتاجت – أي هذه العلوم - إلى علوم أخرى وهي الوسائل لها، من: معرفة قوانين العربيّة، وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذّبّ عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة لكثرة البدع والإلحاد، فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع . 

وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحَل الحَضَر، وأن العرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعُد عنها العرب وعن سوقها. 

والحضَر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي وأهلِ الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف، لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس. 

فكان صاحب صناعة النحو: (سيبويه) و(الفارسي) من بعده و(الزجاج) من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم، وإنما رُبُّوا في اللسان العربي».

ارتباط الحضارة بالحضر:

ثم عدد أمثلة من سائر العلوم، إلى أن قال: « واستقرّ العلم كلّه صناعة، فاختصّت بالعجم، وتركتها العرب، وانصرفوا عن انتحالها، فلم يحملها إلّا المعرّبون من العجم شأن الصّنائع، كما قلناه أوّلا. 

فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلاميّة ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من: العراق، وخراسان، وما وراء النّهر. 

فلمّا خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة الّتي هي سرّ الله في حصول العلم والصّنائع، ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة، واختصّ العلم بالأمصار الموفورة الحضارة».

من هنا عرفنا أن البناء الحضاري يحتاج إلى الأرض المؤهلة للعب الدور الحضاري، والتي أسماها ابن خلدون (الحضر)، وهذه الأرض لا بد أن تكون عندها من المميزات والخصائص الاجتماعية ما يساعدها على ذلك، كما حصل مع الدعوة الأولى حيث كانت المدينة هي المنطلق، وأهلها؛ الأوس والخزرج، جذورهم يمنية، واليمن كانت لها في التاريخ حضارات معروفة.

كما تحتاج إلى العلوم المؤسِّسة التي تقيم صرح الحضارة وترفعه. وإلى الصنائع التي تؤمن احتياجات المواطنين وكفايتهم الذاتية.

وعليه فإن الحضارة التي بنيت في ظل الإسلام، بناها المسلمون لا العرب فقط، والمسلمون منهم المسلمون ديانة، ومنهم المسلمون هوية، وهم المواطنون في الدولة من غير المؤمنين. 

كل هؤلاء ساهموا في بناء الصرح الحضاري الذي وضع أساسه قول الله تعالى ﴿لتعارفوا﴾. والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين