نظرة الإسلام إلى القتال والقوة

أذعتها صباح الثلاثاء 5 من ربيع الأول 1377

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فعنوان حديثي إليك اليوم: نظرة الإسلام إلى القتال والقوة.

إن الإسلام دين سماوي شرَعَه الله للناس عامة، ليسيروا على مناهجه ويقوموا بتنفيذه، وجَعَلَ دستورَ هذا الدين القرآنَ الكريم، وقد بيَّن فيه للناس كل ما يتعلق بشؤون الحياة الدنيا، كما بين لهم فيه كل ما يتعلق بشؤون الحياة الأخرى، ورسم لنا في هذا الكتاب ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من قوة وعزة ومَنْعة، كما رسم لنا موقفنا في السلم وموقفنا في الحرب، ودعانا في هذا وذاك أن نكون عند حدود الله، فلا ظلم منا، ولا ضعف فينا، ولا ذل لدينا ولا استعلاء علينا، وبيَّن لنا أنه أخرجنا للناس - أي صنَعَنَا - لهداية الناس لا لأنفسنا فقال سبحانه في سورة آل عمران: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله﴾، وقَدَّمَ ذِكْرَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن ذكرِ الإيمان بالله ليشعرنا أنَّ أثرَ هذا الإيمان هو الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو السبب الذي أُخرِجْنا للناس من أجله.

وقد سنَّ لنا في هذا الدستور الإلهي العظيم: أن نكون مسالمين مهادنين مَنْ سالمنا، مقاتلين من قاتلنا، غير معتدين ولا مستَضْعَفين، فقال في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾، كما قال سبحانه: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾. وينبغي أن نتدبر في هذه قوله تعالى ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، فقد ربط القتال في سبيل الله ولم يجعله مطلقاً غير مقيد بشيء، وذلك لأننا أمة الإسلام والسلام بحق، فلا ينبغي أن يكون منا قتال في غير سبيل الله، فلا قتال منا من أجل التوسع أو الاستعباد، أو الاستيلاء على مرافق ومغانم، أو للإذلال أو الإخضاع، أو لسيادة عنصر أو جنس أو لون على غيره، فذلك كله في غير سبيل الله، ولهذا جاءت الآيات التي وردت في موضوع القتال مقَيَّدَة في سبيل الله، واستمع إلى القرآن الكريم إذ يقول:

﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ * الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةََ الله وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾

﴿إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله ... قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا﴾

﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾

﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾

﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾

﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾

﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾

إلى آيات كثيرة غير هذه جاءت كلها مصحوبة بهذا القيد العظيم: في سبيل الله.

ومن القتال في سبيل الله أن تَرُدَّ المعتديَ وتدفع الباغيَ ولو كان أخاك أو قريبك، وذلك صريح في قوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. وهو صريح في قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، ومما يلاحظ أن الآية الكريمة إذ سمحت برد الاعتداء على المعتدي قيَّدَتْهُ بالمثل، وأضافت إليه التذكير بتقوى الله وأنَّ نصر الله مع المتقين، إيذاناً بأن المسلم لا ينبغي له أن يكون معتدياً ولا مشتطاً في الانتقام، فإن ذلك مخالفٌ لدعوته التي هي السلام والإسلام، وخروجٌ عن الغاية التي أُخرِجَ المسلمُ للناس من أجلها.

والله إذ يدعونا إلى ذلك يدعونا أيضاً أن نكون أشِدَّاء مرهوبي الجانب، حتى لا يفتات علينا مفتاتٌ، ولا يدنو منا مستكبر، فإن دنا منا أو عدا علينا فعلينا أن نكون بما لدينا من مَنْعة وسلطان نحن المنتصرين عليه كل الانتصار، واستمع إلى القرآن الكريم إذ يرسم لك هذا المنهاج ويعدد لك صفات المؤمنين فيقول في سورة الشورى: ﴿وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾، فمن صفات المؤمنين إذا نزل بهم بغيٌ أو أحاط بهم عدوان أن يكونوا هم الفائزين بالنصر والغَلَب.

وهذا يقتضي منا أن نكون أقوياء حتى نتمكن من تحقيق النصرة لأنفسنا مستعينين بالله عز وجل إذ كنا نقاتل في سبيله، ولهذا أمرنا القرآن الكريم بالإعداد والتعبئة الدائمة، لا لنكون بغاة معتدين، بل لنُرهِبَ العدو ونُكفى الشر، ويسود السلم والأمن، قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾، فما أمَرَنَا الله بالقتال أولاً، وإنما أمرنا بالإعداد والقوة ليكون ذلك واقياً من الاعتداء علينا من قريب أو بعيد.

والقوة كلمة شاملة جامعة تشمل القوة في أساليب القتال وألوان السلاح التي يكون لها أثر الفوز على العدو المحارب، فيدخل فيها آلات الطعن والضرب والرماية، وبناء التحصينات وتهيئة ما تحتاج إليه الجنود من نحو الملابس والمطاعم، وما يحتاج إليه الشعب من الملاجيء والعلاجات والوقايات والمصابرة في وجه العدو، كما تشمل كلمةُ القوة: القوةَ في الجسم والخُلُق والعلم، فذلك كله قوة، وكله يفتك في العدو ويُمَكِّنُ من الظفر والنصر عليه، ويحفظ لك رهبة الجانب وسلامة الذِمار والدار، ويبعد عنك شبح الاعتداء عليك، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فسَّر القوة بالرمي، روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة؛ ألا إنَّ القوةَ الرمي، ألا إنَّ القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي. قال العلماء: وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمي بالذكر في تفسيره القوة لأنه أهم ما يُتعاطى في الحرب، وأنكى ما يكون على العدو، وأفتك سلاح يقع عليه. ولهذا حذَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أهملَ الرمي أو تركه حتى نسيه بالبراءة من الإسلام، روى مسلم في صحيحه أيضاً عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا. ولما كان لسلاح الرماية وللفروسية وما يقوم مقامها اليوم من وسائل ركوب متن الأرض أو البحر أو الهواء هذه المنزلة العظيمة الأثر سمح الإسلام أن يكون التمرن على السلاح في المسجد نفسه، وجعله لهواً مشكوراً، وسمح بالرهان فيه، جاء في صحيح البخاري أن الحبشة كان يلعبون بالحراب في المسجد على مرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أنكر عليهم عمر بن الخطاب وأهوى إلى الحصباء ليرميهم بها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: دعهم يا عمر. وقال صلى الله عليه وسلم: لا سَبَق - أي لا رهان - إلا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافِر. أي لا رهان إلا في هذه الأشياء الثلاثة. وجاء من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: كلُّ شيء يلهو به الرجل باطلٌ إلا رمي الرجل بقوسه.

كلُّ هذا دعوةٌ إلى الأخذ بالقوة التي ينبغي أن يكون المسلم عليها، فكونوا أقوياء أيها المسلمون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم"إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين