نظرات اقتصادية في سورة البقرة (1)

نظرات اقتصادية في سورة "البقرة" (1)

د. أشرف دوابه

 

سورة «البقرة» مدنية، فهي من أوائل ما نزل من سور القرآن الكريم بعد الهجرة النبوية الشريفة، وهي أطول سور القرآن، وتنطلق هذه السورة من محور عام حاكم ليس للاقتصاد فحسب، بل للحياة البشرية بكافة أبعادها؛ حيث تنطلق من الاستخلاف والتسخير والتعمير؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وانتقلت إلى التشريع الاقتصادي لإصلاح المجتمع في قضايا متعددة كالإنفاق، والوصية، وأكل أموال الناس بالباطل، والمسكرات، والميسر، والمواريث، واقتصاد الأسرة، والبيوع، والربا، والديون، والإشهاد، والرهن.

بدأت سورة «البقرة» بقوله تعالى: (الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة).

وتعكس هذه الآيات طبيعة هذا الكتاب الخالد؛ القرآن الكريم، الذي لا شك فيه ولا ريبة تعتريه، هذا الكتاب الذي هو منهج الإنسان على الأرض، ومنبع الشريعة عقيدة وأخلاقاً وفقهاً، هذا الكتاب الذي هو منهج ومنبع الاقتصاد الذي يرتوي من عظمة الشريعة وثباتها ومرونتها، هذا الكتاب الذي هو هدى للمتقين والأخذ بأيديهم للصراط المستقيم، والتقوى وضحها أُبي بن كعب حينما سأله عمر بن الخطاب عنها بقوله: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.

فالتقوى هي سلوك إنساني في العبادات والمعاملات تعلوه الرقابة لرب العالمين، والأخذ بالأسباب تشميراً واجتهاداً لتوقي أشواك طريق الحياة، ومنها الحياة الاقتصادية التي تتجاذبها أشواك حب المال حباً جماً، حتى لا يرى الله تعالى عبده حيث نهاه ولا يفتقده حيث أمره.

وهذه الآيات تعكس قيمة البعد العقدي في عالم الاقتصاد كما هو في حياة المسلم بأكملها، فالاقتصاد الإسلامي يرتبط بعالم الشهادة المحسوس، وعالم الغيب الغائب علمه عنا الذي لا يدركه حسنا، وهذه ميزة لا توجد في غيره من النظم الاقتصادية الوضعية، فهو اقتصاد إنساني روحاً وجسداً، ومصدر المعرفة فيه لا يقتصر على العقل كما رسخت لذلك المنهجية العلمية الغربية، بل يشمل العقل والوحي معاً.

فالمسلم يعتقد اعتقاداً جازماً بأن وراء المحسوسات موجودات يصدقها العقل، وإن كان لا يأتي عليها الحس ولكن يرشد إليها الوحي، باعتبار أن الغيب كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا تهتدي إليه العقول أنه كائن.

للعقل حدود

فمما لا شك فيه أن للحواس من السمع والبصر والشم والتذوق واللمس حدوداً، فكذلك عقل الإنسان له حدود يتسع لها في المعرفة، وحدود فوق قدراته لا يصل إليها، ولا بد أن نعرف أن وجود الشيء مختلف تماماً عن إدراك هذا الشيء، فالروح في الجسد هي من تهب لنا الحياة، ولكن لا نسمعها أو نراها أو نشمها أو نتذوقها أو نلمسها، ولم نعرفها إلا بأثرها في إحياء الجسد، فكيف بمن يعجز أن يدرك مخلوقاً في جسده وذاته وهو الروح بآثارها أن يدرك الله تعالى بحواسه؟!

ومن ثم، فمن آمن بالقمة الغيبية وهو الله تعالى، يؤمن إيماناً جازماً بكل ما يخبرنا عنه وإن لم نره، فعدم قدرتنا على رؤية شيء لا يعني أنه غير موجود، ولكن آلة الإدراك -وهي البصر- عاجزة عن رؤيته؛ لأن لها حدوداً لا تتجاوزها، فالمحدود لا يدرك المطلق، فيتجاوز الإنسان بذلك مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس، فيدرك قدرة رب العالمين المدبر لهذا الكون العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن والغيب والشهادة، الذي لا تدركه الأبصار ولا تحيط به العقول، فيحترم الإنسان عقله ويتلقى بطمأنينة غيب ربه، فتتجه إرادته نحو تعمير الدنيا للآخرة.

الإيمان والسلوك الاقتصادي

إن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره، لا ينفصم عن السلوك الاقتصادي للمسلم؛ فهو يؤمن بأن ما أصابه كله خير، وأن الدنيا دار استخلاف للتعمير، وأن الآخرة دار جزاء، فمن لا يؤمن بالآخرة والبعث والحساب يفعل في الدنيا ما يشاء دون أي وازع، وبذلك يتساوى الظالم والمظلوم والسارق والمسروق باعتبار الدنيا غاية، وترتفع الأثرة وتنتكس القيم، وتضيع العدالة.

فالدنيا دار اختبار ودار أغيار، والآخرة دار نعيم مقيم، ففي الدنيا إما أن تفارق النعمة بالموت أو تفارقك هي بزوالها عنك، وفي الآخرة النعمة لا تفارقها ولا تفارقك، لذا جاءت آخر آية نزولاً في القرآن الكريم في سورة «البقرة» خاتمة لقضية اقتصادية من الكبائر وسبب الشقاء لعالم الضمير وعالم السلوك وعالم الاقتصاد وهي قضية الربا، تأتي هذه الآية لتربط الدنيا بالآخرة والاقتصاد في عالم الشهادة بعالم الغيب؛ (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281).

كما أن عالم الاقتصاد وعالم العبادة متكاملان، فالإيمان بالغيب حظ القلب، وإقام الصلاة حظ البدن؛ (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) حظ المال، فالمتقون يؤمنون بالغيب بسلامة فطرتهم ووحي ربهم، ويقيمون ركني الدين البدني الروحي، والمالي الاجتماعي، إيماناً بالقرآن الكريم، وما أنزل من قبله من كتب الرسل، فهذا هو طريق الهداية الربانية والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.

لذا، جاء ربط إقامة الصلاة بالإنفاق، فإقامة الصلاة بالإتيان بها بجميع حقوقها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، وما فيها من خضوع وخشوع لله رب العالمين، والإحساس بالحاجة إليه والاستعانة به استدراراً للنعمة أو دفع النقمة مصدر قوة روحية للمسلم للسعي في الأرض والابتغاء من فضل الله ورزقه؛ (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)، فالصلاة قوة دافعة للعمل والإنتاج وتحقيق الدخل وتوزيعه وإنفاقه، فمن صفات المتقين أنهم من رزق الله ينفقون، فإذا كان الإنفاق ممثلاً للتوزيع الوظيفي والشخصي في آليات الاقتصاد، فإن صفات المتقين الأخرى لا تنفصم كذلك عن السلوك الاقتصاد للمسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين