نصوص الوحي تناديك

كشفت جولتي في مناجم النصوص القرآنية عن ثلةٍ من دعائم سُنَّتِنَا هذه، أَسْطُرُ ألمعَهَا في خمسة بنود إِلَيكَهَا:

1- هل أتاك نبأ الرقيم؟:

حدثتنا سورة الكهف أن فتيةً آمنوا بربهم، ولمَّا انبرى سلطان زمانهم يفتنُهُم في دينهم، اعتزلوا قومهم، وآوَوْا إلى الكهف؛ علَّ الله أن ينشر لهم من رحمته، وقد اجتهدوا في إخفاء أنفسهم، بل أوصوا من يذهب إلى السوق؛ لينظر أيها أزكى طعامًا، أن يتلطف، ولا يُشعِرنَّ بهم أحدًا، إلا أن الله أعثر الأَنَام عليهم، ونقل إلينا ما كان من أمرهم، وأكرمهم بسورةٍ قرآنيةٍ حملت خبر كهفهم، يتلوها كثيرٌ من المؤمنين في كل جمعة..

وعقب هذا أستأذنك أخي أن نترنم سويًا بقول الله عزَّ وجلّ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9]

رسالة الآية:

أفاد المفسرون أن في تأويل الرقيم أقوالًا، أَوْلَاها بالصواب وأرجحُها عند شيخ المفسرين الإمام الطبري، وهو رأي ابن عباس م، وسعيد بن جبير ومجاهد، أنه بمعني المرقوم؛ أي: المكتوب، والرقيمُ لوحٌ كبيرٌ من رصاص، كتبَ الناسُ فيه أسماءَ الفتية ودينهم وأنسابهم، وقصتهم من أولها إلى منتهاها، ثم أثبتوه في أعلى سور المدينة؛ يبصره كل داخل لها أو خارج منها؛ ليعلم من اطلع عليه يومًا من الدهر ما قصتُهم، حتى تذهب الدنيا (1)!

فتدبر بمجامع قلبك:

لما سَعَوْا يخفون أنفسهم أثابهم الله ذِكْرًا وظُهُورًا، وانتقلوا من الكهف المهجور، إلى لوحٍ بصدر المدينة منشور، وكم من أناس اجتهدوا في شهرة ذواتهم بكل سبيل؛ فأبى الله إلا أن يَبْقَوْا في كهفٍ مستُور، وذِكْرٍ مغمُور!

2- يأتي بها الله:

جلس لقمان يوصي ولده، وما كنا نعلم شيئًا عن لقمان، ولا عن وصيته، إلا أن الله نقل ذلك إلينا في سورةٍ باسمه تتلى، إليك طرفًا منها:

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، وهذه عظةٌ ثمينة - إِيْ ورَبِّي -، فَأَمْسِكْها بكلتا يديك، وَعُضَّ عليها بناجذيك..

رسالة الآية:

إنَّ ما يقتَرِفُهُ العبدُ من حسنات وسيئات ظاهرٌ كشمسِ السماءِ، بل لو كان العملُ مثقالَ حبة من خَرْدَلٍ إشارةً إلى منتهى صغره، وقد أَدَّاهُ داخل صخرة دِلالة على حَجبِهَا عن الخلق، أو في السماوات أمارة البعد الشديد، أو في الأرض تلويحًا بظلماتها الكالحة؛ فإن الله يأتي به، وينقله للناس؛ لِتَمضيَ سنة الله تعالى (2)!

قرأ عثمان رضي الله عنه هذه الآية، فسجل لنا مثالًا عَجَبًا يعين على فهمها فقال:

لو أن رجلاً دخل بيتًا في جوف بيت، فأدى هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عاملٍ عَمِلَ عَملاً إلا كساه الله رداء عمله، إن خيراً فَخَير، وإن شراً فَشَر!

رحم الله عثمان، فإن كلماتِهِ تَشُعُّ نورًا كالقمر، إلا أنها مستمدة من شمس الرسالة النبوية، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ " (3)!

قال الألوسي في تعقيبه على الآية:

جرت سنة الله تعالى على أنَّ العبد وإن اجتهد في إخفاء الطاعة؛ فلابد وأن يُظهِرَ ربنا سبحانه مَخَايِلَها على شمائله، والمعصية كذلك، فحسرةً على من أظهر خلاف الواقع، ولهذا ما أسرَّ عبد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًا فشر (4).

3- والله مخرجٌ ما كنتم تكتمون:

كان في بني إسرائيل رجلٌ ثري، وله ابن عم فقير، لا وارثَ للغني سواه، فلما طال عليه أَجَلُهُ قتله لِيَرثَه، وحمله في ظلام الليل، وألقاه في قرية بعيدة، فلما هَلَّ نور الصباح راح يتهم أناسًا في قتله، وغدا يُرْعِدُ وَيُبْرِقُ، ويطلب الثأر، فهرع الناس إلى موسى ؛ كي يدعوَ ربه، ويعرفوا القاتل الحقيقي، فنزل وحي السماء {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]..

فلما ذبحوها وما كادوا يفعلون أُمِرُوا أن يضربوا القتيل ببعض أجزائها، فعادت إليه الحياة، وأفصح عن قاتله، وعلم الناس أن من نادي بالأمس بثأره هو من اقترف الجريمة والناس نيام!

وهذا برهان قرآني أَبُثُّهُ لكل مُرتابٍ في سُنَّتِنَا؛ فإن الله الذي يخرج الحي من الميت كشف السر من خلال عُضو بقرة، مع عجزها عن إحياء نفسها، فضلًا عن غيرها، ولسان القدر ينطق: جسد ذبيح يرد الحياة لِرَجُلٍ قتيل(5)، علَّ اليقين يُرَابط في قلبك، فتعلم أن السرائر تُبلَى وتَظْهر، وأن القاتل سيُقتَل ولو بعد حين، ألم أقل لكم إن الله مخرج ما كنتم تكتمون؟!

من فرائد الفوائد

كان سفيان الثوري لا يعتد بما ظهر من عمله، فَخَلَّدَ اللهُ اسمه، ورفع ذكره، وجعله في الناس إمامًا، أما المنافقون فلا يعتبرون إلا بعمل الظاهر، والصدح به في أسواق المفاخر، فإنْ غَضَّ الناس البصر عن رؤيتهم، رقدوا لحين عودتهم، فجاء سمتهم ينص على أن: أفهامهم سقيمة، وآراءهم عقيمة، تراهم يبصرون لكن بلا بصيرة؛ لسوء السيرة، وخبث السريرة.

قدْ ماتَ قومٌ، وما ماتتْ مكارمُهمْ=وعاش قومٌ، وهمْ في الناسِ أمواتُ

4- ولتعرفنهم في لحن القول:

أفاد القرآن أن رأس مال المنافقين ارتداءُ ثياب التُّقَى والخير، ومناصحة الغير، لكن الله هتك سترهم في فلتات الألسن ولَحْنِ القول، وكذا بما ورد في سورة البقرة:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]

رسالة الآية:

ذكر المفسرون فيها قولين:

أولهما: أَسَرَّ المنافقون فيما بينهم هذا القول، فنقله الله عزَّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وهذا قول البغوي.

والثاني: أن ألسنهم ما تكلمت بذاك الحديث البَخْس، إنما كان حديثَ نفس، فأبى الله إلا هتك سترهم، وإظهار سِرَّهم، أما في الاتجاه المعاكس؛ فقد رأينا الذين أطعموا الطعام على حُبِّهِ مسكينًا ويتيمًا وأسيرا، قالوا في أنفسهم {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]، فنقل الله قولهم لنا، وأثابهم أجرًا حسنًا، ومَتَّعَهُم متاعًا حسنًا، ورزقهم ذكرًا حسنًا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان(6)!

فسبحان الملكِ القدوسِ السلامِ الذي يكشف لنا محاسن الكرام، ومساوئ اللئام؛ لنعلم أن الساعيَ في ستر آثامه يُفضح، والمجتهد في إخفاء طاعاته ذِكْرًا يُمنح.

5- يوم تبلى السرائر:

إذا تَقَرَّرَ أن السرائر تظهر في الدنيا؛ فإن الآخرة أجلى وأولى، فإذا بُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّلَ ما في الصدور، وَحَدَّثَتِ الأرضُ أخبارها، لمَّا أوحى الله لها، حينها تُبلَى السرائر، وتُكشَفُ خبايا الضمائر، وقد قال ابن عُمر م: يُبدِي اللهُ كلَّ سرٍّ يوم القيامة، فيكون زَيْنًا في أوجه أهل الكرامة، وشينًا لأهل الندامة، وقد قال الله تعالى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]، وهذه الآية - لمن كان له قلبٌ - شافية كافية.

وسِرُّ ذلك أُسمِعُهُ إيَّاك من روائع ابن القيم الذي راح بعبقريته الفذة يقول:

إن الأعمال نتائجُ السرائر الباطنة، فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحًا، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياءً، ومن كانت سريرته فاسدة كان علمه تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وَشَيْنًًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته؛ فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها (7)!

إخوتاه:

لو رزقنا الله عينًا قلبية ثاقبة النظر، لأدركنا أنه لا سِرَّ في صفحة هذا الكون، فيحسب الجاهل أن معاصيَه في خفاء، لكن شمائلها تكسو الوجه بِذِلَّةٍ وكآبة يراها الخَلْق، ولا تعجب من ذلك، وتعالَ نُصْغِ سويًا لخبر حبيب أبي محمد، علَّ العجب يتبدد..

كان حبيب أبو محمد يَتَّجِرُ في الأموال، ويغوص في الربا، فمرَّ ذات يوم بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكِلُ الربا، فنكس رأسه، وقال: يا ربِّ، أفشيتَ سرِّي إلى الصبيان، فرجع فجمع ماله كُلَّه، وقال: يا ربِّ إنِّي أسيرٌ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح، تصدَّق بالمال كلِّّه وأخذ في العبادة، ثم مرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا؛ فقد جاء حبيبٌ العابد، فبكى، وقال: يا ربِّ أنتَ تَذُمُّ مرَّةً وَتَحْمَدُ مرَّةً، وكله من عندك {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].

 

(1): تفسير الطبري (17/604)، ابن الجوزي / زاد المسير (5/108)، ابن عاشور / التحرير والتنوير (15/260).

(2): الرازي / البحر المحيط (7/183).

(3): مسند أحمد، رقم الحديث: (11230)، (17/330)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الهيثمي، وضعفه الألباني.

(4): الألوسي / روح المعاني (18/200).

(5): الماوردى / النكت والعيون (1/143)، سيد قطب / في ظلال القرآن (1/52).

(6): إسماعيل حقي / تفسير روح البيان (1/54).

(7): ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن ص (64).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين