نصر قريب -8- دولة التكريم

 

شفافية السلطة التنفيذية ومحاسبيتها أمام الشعب:

ما دام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فُرض في الإسلام على الجماعة المسلمة كما مر، فإن من لوازمه أن تكون السلطات شفافة معروف ما تقوم به لجميع الناس. فتكون الأحكام والتصرفات والنفقات معروفة الأبعاد ومعدودة التحركات. فيقوم الناصح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بدراستها قبل استخلاص نصحه وقراره. وهكذا تكون علنية التصرفات في القطاع العام واجبة. إذ لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الصحيح إلا بعلنيتها. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما يقول الأصوليون. والمهم أن اتخاذ القرار الصحيح من العاقل لا بد له من معلومات دقيقة. مما يجعل تواجد المعلومات الصحيحة الدقيقة للناس، واجب شرعي.

ومن أشكال الشفافية اعطاء الصحافة والإعلام تقارير دقيقة عن مشاريع الدولة وعن مدى ما أنجز فيها. وكل المعلومات التي تمكن الناس من معرفة الحقائق. وهل السلطات تقوم بما وعدت به حين انتخبت من قبل الناس. وهذا ما يسمى الرقابة الشعبية. ولذلك لا يجوز حبس المعلومات عن الصحافة بحجج غير شرعية ولا حقيقية.

3.    تطبيق العدل وصيانة حقوق الضعفاء:

a.    استقلال القضاء:

لقد علمتنا سنة رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن الإنسان بطبيعته يتحيز لنفسه. وأنه يبرؤها عن الخطأ والعيوب. وأنه يرى عيوب الآخرين كبيرة حتى ولو كانت صغيرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ القَذَاةَ في عَيْنِ أَخِيهِ، ويَنْسَى الجِذْعَ في عَيْنِهِ". صحيح. ابن حبان و غيره. فعلمنا بذلك التنبه لهذه السقطة. وأرشدنا إلى أن المسلم الصالح يجب أن لا يسقط فيها، فلا ينحاز ولا يجور.

وعلمتنا السنة كذلك في نفس الوقت أن نحتاط لديننا ولإقامة العدل في المجتمع المسلم. هذه الحيطة تقتضي أن يكون القضاة حياديين مستقلين. فلا يقع أحدهم ولا حتى في شبهة انحيازه لنفسه! فقامت القواعد القضائية المعروفة و التي منها أن لا يحكم القاضي في قضية هو طرف فيها أو أحد من أقاربه من الدرجة الأولى. لأنه سيكون هناك شبهة انحياز وتعاطف تمنع من الحيادية والاستقلال. وهو شرط أساس للحكم العادل.

 

b.   ثقة الشعب بالقضاء وعدله:

وتتمة القاعدة السابقة أننا نعرف انحياز القاضي أو عدمه من خلال ثقة الناس به وبحكمه. وأوضح مثل ما يرويه البخاري في صحيحه عن يوم طعن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول: فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ. وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ...! فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَا بَأْسَ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ.... فانظر كيف شعر الصحابة حين تخوفوا على عمر رضي الله عنه. وتأمل في قوله: وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ... وقارنه بحقيقة أن وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مضى عليها كثيرا، تجد وكأن الناس تحبه كأنه الرسول !!!

وما ذلك إلا لما اشتهر به من العدل والإنصاف والرحمة ورعاية الأمة، تماما مثل بعض الثوار أو القادة اليوم!!!! ومن باب ثقة الناس بفاعل الخير و العدل يتبين وجوب إشاعة الخير بين المسلمين ونسبة الخير لأهله حتى تعرفه الناس. وفي ذلك حديثان ثابتان: عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هن العواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر. وجار إن رأى خيرا دفنه، وإن رأى شرا أشاعه. وامرأة إن حضرتك آذتك، وإن غبت عنها خانتك". لا بأس به، رواه الطبراني وغيره.

والحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعوذوا من ثلاث الفواقر: من مجاورة جار السوء؛ إن رأى خيرا دفنه، وإن رأى شرا أذاعه. ومن زوجة سوء إن دَخَلْتَ ألسبتك، وان غِبْتَ خانتك. ومن إمام سوء إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر". حَسَنٌ لغيره، رواه الطبراني وغيره.

c.    تساوي القوي مع الضعيف أمام القضاء:

مر معنا أحاديث في هذا المعنى مثل: "إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ". صَحِيحٌ، رواه ابن ماجة وغيره. و"إن الله لا يترحم على أمة لا يأخذ الضعيف منهم حقه (غير) متعتع". صَحِيحٌ، رواه الحاكم وغيره. وجواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على قول الأعرابي: ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "صدق! من أحق بالعدل مني؟ لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها، وهو لا يتعته". حسن لغيره الطبراني. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو آمر بذلك فأنا ظالم! لا يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفها من شديدها". حَسَنٌ لغيره، رواه الطبراني.

d.   سلطة القضاء على أجهزة الدولة وأركان السلطة:

مر معنا حديث أبي أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ القَذَاةَ في عَيْنِ أَخِيهِ، ويَنْسَى الجِذْعَ في عَيْنِهِ". وهو يدل فيما يدل على وجوب إقامة نظام ما يسمى: بـ "الضوابط والتوازنات Balances & Checks". وهو مبحث معقود بأدلته التفصيلية في غير هذا المكان، لكن يكفي فيه هنا الحديث السابق وقوله تعالى: "وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(49)" الذاريات.

فامتن علينا سبحانه وتعالى بخلق نظير لكل شيء يوازنه و يناظره. فإذا جمعنا له صعوبة أن يرى الإنسان أخطاء نفسه تبين لنا وجوب إقامة نظام يقوم على وضع ضوابط لكل شيء و نظائر توازنه. مثل أن يقوم الرئيس أو الخليفة بإختيار قضاة المظالم لكنهم لا يعينون إلا إذا قام مندوبوا الشعب بقبولهم والموافقة عليهم. وهكذا قد يتبين أن نظام الضوابط والتوازنات هو وحده دليل إقامة العدل على حقيقته.

ولعله إلى ذلك أشار الله سبحانه في الآية الكريمة السابقة. ومن هذا الباب أدرك المسلمون أهمية خضوع قمة هرم السلطة التنفيذية للقضاء حتى يقام العدل ويأخذ الناس حقوقهم. فالسلطة  القضائية تضبط السلطة التنفيذية و توازنها وتناظرها فلا تحيف أي منها. وقد كان ذلك مهما في نظرهم إلى درجة أنهم يعتبرون حكم القاضي "شرع" مثله مثل حكم الشريعة! وكان في تاريخنا أنه لا يمكن أن ينتصر أبدا على العدو إلا من فعل ذلك!

وقد مرت معنا الأحاديث أن الأمة لا ترحم ولا تتقدس ولا تعز، إلا أن يأخذ الضعيف حقه كاملا وهو غير مضطرب! فهذا العدل هو طريق الصمود والتصدي لمن أراد أن لا يكذب على الله ثم على الأمة! حكى ابن العماد عن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي الذي كان قادرا على حرب الصليبيين والانتصار عليهم مرارا. والذي كان من أهم من وطأ لصلاح الدين أنه: كان كثير الصيام. وله أوراد في النهار والليل....

ومن قصص عدله كان يلعب بالكرة الـpolo  (كان لعب الكرة على الحصان. حيث تضرب الكرة بعصى تسمى "الصولجان". و هي تدريب لليد والحصان على الفروسية والكر والفر) في ميدان دمشق. فجاء رجل فوقف بإزائه. فقال للحاجب: سله، ما حاجته؟ فقال: لي مع نور الدين حكومة (مظلمة او مقاضاة)! فرمى الصولجان من يده. وجاء إلى مجلس القاضي كمال الدين الشهرزورى، وقاله له:

لا تنزعج ! واسلك معي ما تسلكه مع آحاد الناس.

فلما حضر (اي المدعي)، سوى بينه وبين خصمه (اي سوى القاضي بين المدعي وبين الملك). وتحاكما. فلم يثبت للرجل عليه حق. وكان يدعى أن له ملكا في يد نور الدين. فقال نور الدين للقاضي: هل ثبت له عليَّ حق ؟ قال: لا. قال: فاشهدوا أني قد وهبت الملك له! وقد كنت أعلم انه لا حق له عندي. وإنما حضرت معه لئلا يقال عني؛ أني طُلِبْتُ إلى مجلس الشرع فأبيت.

 

e.    شفافية القضاء والإجراآت القضائية ومحاسبيتها أمام الشعب:

إن من مهام الأمة المسلمة في منطق القرآن الشهادة على الناس بالعدل. قال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .. (143)" البقرة. وقال سبحانه: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(105)" التوبة. وفي السنة يَقُولُ أَنَسُ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَرُّوا {عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

"وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ"! ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ"! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي}. مَا وَجَبَتْ؟ {مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ"! وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ"}! قَالَ: "{شَهَادَةُ الْقَوْمِ الْمُؤْمِنُونَ}! هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ.

أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ! {أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ! أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ}! صحيح. متفق عليه. من ذلك نعلم أهمية أن يتم كل شيء بشفافية ووضوح، خاصة في عمل كل أجهزة الدولة.

4.    شعور المواطن بكرامته ومواطنته في بلده:

لعل من أبرز صفات الإنتماء هي التساوي بين الجميع. ومنها حرص الجميع على مصالح الجميع. ومنها مساعدة الضعيف وعدم تركه للهلاك بسبب ضعفه. وهذه الصفات كلها منصوص عليها في الحديث الشريف: "يَدُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ. يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ، وَ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ، أَدْنَاهُمْ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ. تُرَدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعَدِهِمْ، ومُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ". صَحِيحٌ، رواه أحمد وغيره.

ثم كيف لا يشعر المواطن بكرامته ومواطنته في بلده إذا كان الملك نفسه يزوره في بيته خاصة إذا كان ضعيفا ويمازحه ويرعى شؤونه؟ كان للملك الناصر صلاح الدين كلّ يوم قناطير مُقنْطرة من الخُبز يفرِّقها. ويكسو في السنة خَلقًا ويُعطيهم الدِّينار والدِّينارين. وبنى أربع خَوانِك للزُّمنى والعُميان وملأها بهم. وكان يأتيهم بنفسه كلَّ خميس واثنين. ويدخلُ إلى كلّ واحد في بيته ويسأله عن حاله ويتفقّده بشيءٍ. وينتقل إلى الآخر حَتّى يدور على جميعهم، وهُوَ يُباسطهم ويمزَح معهم. وبنى دارا للنِّساء الأرامل، ودارا للضعفاء الأيتام، ودارا للملاقيط رتَّب بها جماعة من المراضع. وكان يدخل البيمارستان. ويقفُ على كل مريض ويسألُه عن حاله.

  1. مقياس عدم خوف المواطن من الشرطة أو الأمن:

إن عزة الأمم وكرامتها أمس واليوم وغدا إلى يوم القيامة، لا تكون إلا إذا صانت الأمة عزة وكرامة أبنائها. وقد رأينا ذلك ونراه كل يوم: في سقوط بغداد وفي استعباد الأعداء لنا كل يوم. وقد كان الصحابة يدركون ذلك إداركا جيدا. وقد مر معنا من كلام عمرو بن العاص (في وصف الروم): وخامسة حسنة جميلة؛ وأمنعهم من ظلم الملوك. مع أن عمروا رضي الله عنه نفسه، ليس ممن اشتهر بالعدل أصلا! فإذا كانت "الفِئَةُ البَاغِيَةُ" من الصحابة يقدسون العدل هكذا، فكيف كان حال مقسطي الصحابة و أهل العدل فيهم رضي الله عنهم؟

وهل تقديس العدل هذا عندهم كان سبب عزتهم؟ كان المقداد بن الأسود في سرية. فحصرهم العدو. فعزم الأمير؛ أن لا يحشر أحد دابته (يبدو أن العدو ألجأهم إلى مكان ضيق لا يتسع إلا للناس فأمرهم الأمير بعدم اصطحاب الدواب). فحشر رجل دابته، لم تبلغه العزيمة. فضربه (أي الأمير)! فرجع الرجل، وهو يقول: ما رأيت ما لقيت قَط (أي: لم يخطر لي على بال ولم أتخيل أبدا في حياتي أن يقع هذا بي)!؟ فمر على المقداد، فقال: ما شأنك؟ وذكر له قصته. فتقلد (أي المقداد) السيف، وانطلق معه، حتى انتهى إلى الأمير، فقال:

أقده من نفسك!      فأقاده!        فعفى الرجل!

فرجع المقداد، وهو يقول:      لأموتن والإسلام عزيز.

كيف لا تكون هكذا تصرفات المسلمين وفي السنة أحاديث كثيرة جدا تدل على عدم خوف الناس من أعلى سلطة الذي هو حاكم الدولة الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلا عن خوف أحدهم من الشرطي أو من الأمن. بل فيها من يتعدى على حاكم الدولة المسلمة ومع ذلك يأمر له الحاكم بعطاء. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فدَخَلَ الْمَسْجِدَ} وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ.

فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً {من ورائه، رَجَعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ} مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ. حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ. {فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما شأنك}؟ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. صحيح متفق عليه.

 

  1. أخذ رأي المواطن في شؤونه الخاصة والعامة:

ودليله في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي رَجُلٍ طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رِجْلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقِدْنِي! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَعْجَلْ حَتَّى يَبْرَأَ جُرْحُكَ". قَالَ: فَأَبَى الرَّجُلُ إِلَّا أَنْ يَسْتَقِيدَ. فَأَقَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ. قَالَ: فَعَرِجَ الْمُسْتَقِيدُ، وَبَرَأَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ! فَأَتَى الْمُسْتَقِيدُ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرِجْتُ وَبَرَأَ صَاحِبِي!

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ آمُرْكَ أَلَّا تَسْتَقِيدَ حَتَّى يَبْرَأَ جُرْحُكَ، فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ جُرْحُكَ". ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ الرَّجُلِ الَّذِي عَرِجَ؛ "مَنْ كَانَ بِهِ جُرْحٌ، أَنْ لَا يَسْتَقِيدَ حَتَّى تَبْرَأَ جِرَاحَتُهُ. فَإِذَا بَرِئَتْ جِرَاحَتُهُ، اسْتَقَادَ". صَحِيحٌ، رواه أحمد وغيره. وفي حديث صلح الحديبية:

{فقام رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}  فَقَالَ: "{ماذا تقولون؟ ماذا ترون؟ قد جاءكم خبر قريش"، مرتين، "وما صنعت}! أَشِيرُوا {أَيُّهَا النَّاسُ} عَلَيَّ؛ أَتَرَوْنَ {أن نمضي لوجهنا، ومن صدنا عن البيت قاتلناه؟ أم ترون} أَنْ نَمِيلَ إِلَى {عِيَالِهِمْ وَ} ذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ {علينا، يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ}، فَنُصِيبَهُمْ؟ فَإِنْ قَعَدُوا (اي: قعدت المقاتلة عن نصرة العيال والذرية) قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ {مَحْزُونِينَ}.

وَإِنْ {يَأْتُونَا} (اي: مقاتلتهم)، نَجَوْا (اي: العيال و الذرية)، تَكُنْ عُنُقًا {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قَطَعَهَا اللَّهُ (اي: فرق الله جمع حلفاء قريش). أَوْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ"؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ {الصِّديقُ}: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَلَمْ نَجِئْ نُقَاتِلُ أَحَدًا؛ {إنما خرجت لهذا الوجه عامداً لهذا البيت! لا تريد قتال أحدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ}.

وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرُوحُوا إِذًا {عَلَى اسْمِ اللَّهِ}.  وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. صحيح أحمد والبخاري. وفي السنة أحاديث كثيرة جدا فيها استشارة الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس. يكفي منها عبارة أبي هريرة السابقة.

أخيرا عن عبد الله بن بريدة: أن عمر بن الخطاب جمع الناس لقدوم الوفد فقال لابنه عبيد الله وعبد الله بن الأرقم: أنظروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأذن لهم أول الناس. ثم القوم الذين يلونهم. قال: فدخلوا عليه فصفوا قدامه. فإذا رجل ضخم عليه مقطعة برود. فأومأ اليه، فقال عمر: ايه؟ ثلاث مرار. فقال الرجل: ايه؟ ثلاث مرار. فقال له عمر: قم. فقام الى مجلسه. قال: ثم نظر؛ فإذا الأشعري خفيف الجسم. قصير، سبط.

قال: فأومأ اليه، فأتاه فقال له عمر: ايه؟ فقال له الأشعري: يا أمير المؤمنين، سلنا أو افتح؛ حدثنا، فنحدثك. قال عمر: أف! قال: فنظر فإذا رجل أبيض خفيف الجسم، فأومأ اليه فأتاه. فقال له عمر: ايه؟ قال: فوثب فحمد الله وأثنا عليه. ووعظ بالله ثم قال: انك وليت هذه الأمة، فاتق الله فيما وليت من أمر هذه الأمة. ورعيتك. وفي نفسك خاصة. فإنك محاسب ومسؤول عن ما استرعيت. وانما أنت أمين. وانما عليك أن تؤدي ما عليك من الأمانة. وتعط أجرك على قدر عملك.

قال: ما صدقني رجل منذ استخلفت غيرك! من أنت؟ قال: أنا ربيع بن زياد. قال: أخو المهاجر بن زياد. قال: فجهز عمر جيشا. واستعمل عليهم الأشعري. ثم قال: أنظر ربيع بن زياد، فإنه إن كان صادقا فيما يقول فان عنده عون على هذا الأمر، فاستعمله. ثم لا يأتين عليك عشر، الا تعاهدت فيهن عمله. واكتب الي سيرته في عمله حتى كأني أنا الذي استعملته. ثم قال عمر: عهد إلينا، {حذرنا} رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكم {كُلُّ} مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ". صحيح رواه الحارث بن أبي أسامة.

7.    شعور المواطن بالمواطنة ومشاركته بصنع المستقبل:

مر معنا كيف كان الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشير الناس في كل شيء مع أنه رسول الله يأتيه الوحي من السماء. و كيف كان ينزل على مشورتهم. ولولا خوف الإطالة لذكرت الأخبار المعروفة المشهورة التي منها تركه لرأيه مثلا و نزوله عند رأي الشباب في غزوة أحد. ومر معنا أن عمر رضي الله عنه كان آخر همه في حياته أن يدع أرامل أهل العراق، البلد المفتوح حديثا، لا يحتجن لأحد بعده! أي أن الدولة هي التي تقوم بشؤونهن. وإذا كان الخليفة أمير المؤمنين قمة هرم السلطة في المجتمع المسلم يستقبل الناس في بيته ويتحادث إليهم ويشاورهم، كما مر قريبا، أفلا يشعر أحدهم بعدها بأنه بلده وهو صانع حاضره ومستقبله؟

 

8.    انخفاض نسبة الفساد وسرقة الموارد العامة:

اسْتَعْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِلًا {مِنْ الْأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ الأزدي}. {فَلَمَّا جَاءَ} الْعَامِلُ {بِالْمَالِ سواد كثير. دَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ. {فلما حَاسَبَهُ، جاء بمالين}. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا لَكُمْ. وَهَذَا {هدية} أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ: "أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ {إِنْ كُنْتَ صَادِقًا} فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا"؟!

ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ، {فَخَطَبَ النَّاسَ} فَتَشَهَّدَ، {وَحَمِدَ} وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ! فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ {عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ} فَيَأْتِينَا {بمالين}؛ فَيَقُولُ: هَذَا {مَالُكُمْ} مِنْ عَمَلِكُمْ. وَهَذَا أُهْدِيَ لِي! أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، {إِنْ كَانَ صَادِقًا}، فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟! فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ {من ذلك} شَيْئًا {سرا} إِلَّا {طيف به يوم} يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ!

{أَلَا فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ}: إِنْ كَانَ بَعِيرًا، جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ. وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ. وَإِنْ كَانَتْ شَاةً {لها يعار}، جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ"! ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ، {ثُمَّ قَالَ} "فَقَدْ بَلَّغْتُ"! {ثَلَاثًا}. قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: {سَمِعَ أُذُنَايَ، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي}! وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلُوهُ. صحيح رواه البخاري ومسلم.

 

9.    التداول على السلطة:

هذا البند والذي يليه يمكن أن يستشف من تغيير الرسول صلى الله عليه وآله لقادته في سراياه التي كان يبعثها. وتغييره للولاة الذين يبعثهم في أنحاء الدولة. فقد استعمل صلى الله عليه وآله وسلم أبا عامر على جيش إلى أوطاس. وأمر زيد بن حارثة ثم قال إن أصيب زيد فجعفر فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على جيش مؤتة. واستعمل عبد الرحمن بن عوف على سرية دومة الجندل. وأرسل علي بن أبي طالب إلى خيبر... وغيرها وهي مشهورة في السيرة.

وقد استمر على نهجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فكان يغير القادة العسكريين ويغير الولاة ويجدد نشاط الدولة وأجهزتها. ويدخل إليها دما جديدا. وكل هذه أحداث معروفة مشهورة. وكل الناس يعرف عزل عمر لخالد بن الوليد! وقد قال عنه: اني لم أعزله عن ريبة! وليس أقل عمليات التجديد هذه أنه عزل سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة. وهو أحد الستة المرشحين لخلافة عمر في حكم الأمة كلها!

حتى إن عمر نفسه وهو يوصي على فراش الموت قال: فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ. وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ. فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ. رضي الله عنهم أجمعين. هكذا تكون الأمم المقدسة المرحومة في حراك مستمر لمصلحة المجموع. ولا تركد كالمياه الآسنة من أجل احترام شخص أو أشخاص مهما كان أو كانوا!

10. تحديد فترة الحكم وتجديد القيادة:

ما سبق يلزمنا اليوم، أن تكون فترة الحكم محدودة. وأن لا يبقى الرئيس في عملة إلى الأبد. فمن يقبل اليوم أن يستمر رئيس في الحكم لخمسين أو ستين سنة أو أكثر. ثم، لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرسل أشخاصا مختلفين في مهام متعددة؟ أليس ليشرك الجميع في الحكم. فكيف نشرك أحدا إذا كانت الإدارة لا تتغير إلا مرة أو مرتين في كل مئة سنة؟! 

مما سبق ومراعاة لمصالح المسلمين يمكن أن نستنتج وجوب تحديد مدة الرئاسة. فقد ثبت علميا أن الإنسان بعد مدة من العمل يفقد كل جديد يمكن أن يقدمه. ويجب هكذا أن يأتي أحد غيره ليقدم أفكارا جديدة. وخصوصا في ظل مسؤوليات ضخمة تؤدي لتعب الإنسان بعد عدة سنوات من العمل المرهق. فوجب إذا تجديد المناصب القيادية بدماء جديدة. فيتم اعدادها مسبقا بشكل علمي ومدروس لتأهيلها لتولي أعلى المناصب. و طبعا ضمن الشروط الصارمة المناسبة لتولي المناصب العامة.

 

11.   عدم اقتدار المسؤول على استخدام المكتب فرصة للنفوذ وسرقة المال العام:

عَنْ بُرَيْدَةَ بن الحصيب رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ، فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ". صحيح. رواه أبو داود وغيره. ومعناه أن العامل في الدولة أو الموظف إذا أخذ على عمله أجرا. فهذا كل ما يحق له. فإذا أخذ شيئا بعد ذلك فهو غلول، أي سرقة. وقد مر قريبا حديث أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: "أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ {إِنْ كُنْتَ صَادِقًا} فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا"؟!

وقد رأينا كيف لا تكون للأمة عزة أو كرامة إلا إذا صانت عزة وكرامة أبنائها. وسنرى هنا كيف أن هذه العزة والقوة والثقة تتعزز بعدم سرقة المال العام. وتتعزز بسلطة القضاة على جمع أجهزة الدولة بما فيها قمة هرم السلطة. يروي أبو بكر الخطيب البغدادي عن عمرو الشغافي قال: صلينا مع المهدي المغرب ومعنا العوفي (هو الحسين بن الحسن القاضي). وكان على مظالم المهدي. فلما انصرف المهدي من المغرب جاء العوفي حتى قعد في قبلته. فقام (المهدي) يتنفل.

فجذب ثوبه (حذب القاضي العوفي ثوب الخليفة المهدي). فقال (أي الخليفة): ما شأنك؟ فقال: شيء أولى بك من النافلة! قال (الخليفة): وما ذاك؟ قال: سلام مولاك! قال وهو قائم على رأسه (أي تابع القاضي قوله والخليفة واقف على رأسه وهو جالس): أوطأ قوما الخيل! وغصبهم على ضيعتهم! وقد صح ذلك عندي. تأمر بردها وتبعث من يخرجهم. فقال المهدي: يصح إن شاء الله. فقال العوفي: لا إلا الساعة! فقال المهدي: فلان القائد! اذهب الساعة الى موضع كذا وكذا. فاخرج من فيها وسلم الضيعة الى فلان. قال فما أصبحوا حتى ردت الضيعة على صاحبها!

 

 

12. الخدمات المادية التي يقدمها الوطن للمواطن:

في الحقيقة مسؤلية الدولة عن خدمة مواطنيها بدأت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم. ثم تبعه خلفاؤه الراشدون. انظر ما يرويه أَسْلَمَ مولى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أَنَّهُ: لَمَّا كَانَ عَامُ الرَّمَادَاتِ، وَأَجْدَبَتْ بِبِلاَدِ الْعَرَبِ، الأَرْضُ. كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مِنْ عَبْدِ اللهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى الْعَاصِ بْنِ الْعَاصِ! لَعَمْرِي، مَا تُبَالِي إِذَا سَمِنْتَ وَمَنْ قِبَلَكَ، وَأَنْ أَعْجَفَ أَنَا وَمَنْ قِبَلِي! وَيَا غَوْثَاهُ! فَكَتَبَ عَمْرٌو: سَلاَمٌ، أَمَّا بَعْدُ. لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ! أَتَتْكَ عِيرٌ أَوَّلُهَا عِنْدَكَ، وَآخِرُهَا عِنْدِي. مَعَ أَنِّي أَرْجُو أَنْ أَجِدَ سَبِيلاً أَنْ أُحْمَلَ فِي الْبَحْرِ.

فَلَمَّا قَدِمَتْ أَوَّلُ عِيرٍ، دَعَا الزُّبَيْرَ، فَقَالَ: اخْرُجْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْعِيرِ. فَاسْتَقْبِلْ بِهَا نَجْدًا. فَاحْمِلْ إِلَىَّ كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ قَدِرْتَ عَلَى أَنْ تَحْمِلَهُمْ إِلَيَّ. وَمَنْ لَمْ تَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَمُرْ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ بِبَعِيرٍ بِمَا عَلَيْهِ. وَمُرْهُمْ فَلْيَلْبَسُوا كِيَاسَ الَّذِينَ فِيهِمُ الْحِنْطَةُ. وَلَيْنَحَرُوا الْبَعِيرَ. فَلْيُجَمِّلُوا شَحْمَهُ، وَلْيُقَدِّدُوا لَحْمَهُ، وَلْيَحْتَذُوا جِلْدَهُ. ثُمَّ لْيَأْخُذُوا كُبَّةً مِنْ قَدِيدٍ وَكُبَّةً مِنْ شَحْمٍ وَحَفْنَةً مِنْ دَقِيقٍ، فَلْيَطْبُخًوا وَلْيَأْكُلُوا حَتَّى يَأْتِيَهُمُ اللهُ بِرِزْقٍ.

فَأَبَى الزُّبَيْرُ أَن يَخْرُجَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ، لاَ تَجِدُ مِثْلَهَا حَتَّى تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا! ثُمَّ دَعَا آخَرَ، أَظُنُّهُ طَلْحَةُ، فَأَبَى. ثُمَّ دَعَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَخَرَجَ فِي ذَلِكَ. فَلَمَّا رَجَعَ، بَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةُ: إِنِّي لَمْ أَعْمَلْ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! إِنَّمَا عَمِلْتُ ِللهِ! وَلَسْتُ آخِذٌ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ أَعْطَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْيَاءَ بَعَثَنَا لَهَا. فَكَرِهْنَا، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. {حتى أعطاني مرة مالا، فقلت: أعطه أفقر إليه مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله أو تصدق به! وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه. وما لا، فلا تتبعه نفسك"}. فَاقْبَلْهَا أَيُّهَا الرَّجُلُ! فَاسْتَعِنْ بِهَا عَلَى دُنْيَاكَ وَدِينِكَ. فَقَبِلَهَا أَبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ. صحيح ابن خزيمة والحاكم وغيرهما.

فانظر كيف كانت الدولة تخطط وتحرص على تقديم جميع أنواع الخدمات المادية الممكنة لشعبها! ليس ذلك فحسب، بل لقد أراد الصحابة هذا العمل والجهد والتضحية هدية للمسلمين بغير أجر! بالله قارن ذلك بما يفعله أحدنا في الثورة اليوم!؟ ولقد والله كانت حياة عمر تخطيطا لجعل فقراء الأقطار المفتوحة حديثا، لا يحتاجون لأحد! يروي عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ ... إلى أن قال: فَقَالَ عُمَرُ:لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، لَا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا. قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ... (البخاري و غيره).

وقول عمر بن الخطاب المشهور جدا بين الناس: لو أن سخلة عثرت لخفت أن يسألني الله عنها لم لم تسوي لها الطريق وهذا يدل على مسؤولية الدولة عن توفير الطرق والخدمات حتى للحيوانات لأنها تخدم الناس وتسهل لهم أمور معاشهم وأرزاقهم.

a.    مجانية الخدمات التعليمية:

لعله كان من بديهيات الدولة الإسلامية نشر العلم على الناس مجانا وبذله لهم. بل وحتى من لم يطب العلم نعرضه عليه لعله يحبه فيتعلم. من هنا كان عثمان بن عطاء يقول: ابذلوا العلم لمن طلبه واعرضوه على من لم يطلبه. وقد كانت مصارف الدولة والأوقاف مصادر للنفقة على العلم والتعليم. فنصَّبَ الملك العادل نور الدِّين مؤدّبين للأيتام. أي للفقراء الذين لا يمتلكون ما ينفقون على التعلم. ووقف كُتُبًا كثيرة عَلَى أهل العِلْم.

وكان للملك الناصر صلاح الدين دار مفتوحة لأهل العلم وغيرهم. فيها ما يحتاجون من طعام مدة إقامتهم. فإذا أرادو السفر زودتهم الدار بما يليق بهم في سفرهم:  وكان لَهُ دارٌ مَضيف يدخل إليها كلّ قادم من فقيرٍ أو فقيهٍ فيها الغداءُ والعشاءُ. وإذا عزمَ على السفر، أعطوه ما يليقُ به. وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يأتيها كلَّ وَقتٍ، ويعمل بها سماطا ثمّ يَعمل سماعا.

 

b.   جهود رفع المستوى الثقافي للناس.

حتى كتب الخليفة عمر بن عبد الْعَزِيز أَن انشروا الْعلم يَوْم الْجُمُعَة فَإِن غائلة الْعلم النسْيَان. فمن المعروف أن يوم الجمة يوم عطلة. فأراد رحمه الله أن يستغله في تعليم الناس. وقد شرط رسول الله صلى الله عليه و إخوانه و آله و سلم لفك أسرى المشركين بعد غزوة بدر تعليم عشرة من أطفال المدينة. لأن في ذلك نشرا للعلم وهو شرط أساسي لأي نهضة أو التقدم.

 

c.    مجانية الخدمات الصحية وجودتها.

لقد عجت كتب التاريخ بالحديث عن البيمارستان. وهو كلمة فارسية مركبة من كلمتين: بيمار: مريض، وستان: دار فهي إذن دار المرضى. وظلت هذه الكلمة تطلق على دور العلاج والمرضى حتى حلت محلها كلمة مستشفى عند إنشاء مستشفى أبو زعبل في مصر. ويقول المقريزي: إن أول من بنى البيمارستانات في الإسلام الوليد بن عبد الملك سنة 88هـ وجعل فيها الأطباء وأجرى فيها الإنفاق. وأنشأ الملك العادل نور الدين في دمشق سنة 1170م بيمارستانا ظل ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن.

 

d.   تطوير البنية التحتية وجودتها.

وبنى الملك العادل نور الدِّين دُور العدل، وحضرها بنفسه أكثر الأوقات. ووقف عَلَى المرضى، وأَدَرَّ عَلَى الضُّعفاء والأيتام وعلى المجاورين، وأمر بإكمال سور مدينة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستخراج العين الّتي بأُحُد، وكانت قد دفنتها السيول. وفتح سُبُل الحجّ من الشّام. وعمّر الرُّبَط، والخوانق، والبيمارستانات فِي بلاده. وبنى الجسور والطُّرُق والخانات.

 

13. تحقيق رسالة الأمة:   الدفاع المعلن عن قضايا الأمة وأبنائها:

الدفاع عن قضايا الأمة مبدأه قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]. فرفع الظلم عن كل الناس مطلب شرعي وخصوصا لو كانوا مسلمين. فالمسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه.

و من المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرسل الكتب والرسائل. وأنه كان يخرج البعوث ويجيش الجيوش، كما مر بعضه، دفاعا عن الأمة وقضاياها. وحملا لرسالتها: إقامة العدل إلى العالم؟! فكيف دارت الأيام حتى صرنا نغزى ولا نغزوا! وندعى ولا ندعوا! وتحمل إلينا الرسائل، ولا نحمل رسالتنا لأحد!

14.                      الحالة العامة للمواطن من الكرامة والرفعة والرقي:

وهي معنى التكريم الذي ورد في قوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(70)" الإسراء. والأمة المسلمة مبشرة و موعودة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ. وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ. وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ.  فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ". صَحِيحٌ، رواه أحمد وغيره.

ولذلك يجب أن يكون من شروط عمل أي حكومة أن يكون عندها خطط و برامج عمل لزيادة مستوى كرامة الناس ورقيهم في كل المجالات العلمية والحياتية والاقتصادية، ويجب أن يكون هذا الأمر له قياسات دورية حسب المعايير العلمية مثل زيادة عدد المدارس من كذا إلى كذا. أو رفع عدد الجسور إلى كذا. كل ذلك لمعرفة مدى نجاح أو فشل أي حكومة في زيادة رفعة مواطنها و رفاهيته.

 

 

فما هم مطلوب من الدولة والحكومة أن توفره:

  1. صيانة حقوق الإنسان وإطلاق الحريات العامة للمواطن:

a.     حرية التعبير. جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين