نصر قريب -10- بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ

الرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ

 

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51]

 

العمل السياسي في ضوء الكتاب والسنة

 

شيطنة العمل السياسي:

مع أن سيدنا محمد صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم كان سيد ساسة البشر، يمارس الطابور الخامس اليوم والموجه من مخابرات السفاح عملية غسل دماغ ممنهجة لشتم السياسة والسياسيين وشيطنتهم. يساعده في عمله أن كثيرا من الذين مارسوا السياسة هذه الأيام تنطبق عليهم فعلا الصورة الشيطانية. فلا برامج عمل ولا أهداف واضحة مرحلية أو إستراتيجية ولا قدرات سياسية أو مناورية. بل لم نر همهم إلا التفاوت في خدمة المصالح الشخصية أو الحزبية الضيقة. وسكرهم بحب الشهرة والظهور وتعاملهم مع مصالح الأمة من منطلق المشاعر والمصالح الشخصية.

ونرى تغطيتهم بل إبعادهم كل من يمتلك القدرة لكي لا ينافسهم ويفضح ضعفهم. ففشلوا بسوئهم من تحقيق شيء للثورة أو لغيرها إلا اللهم محاولة الإثراء الشخصي على حساب دماء الشهداء. ونحسب أن بعضهم لا يثري لكنه يفعل ذلك بحسن نية وهو يظن أنه ينصر الإسلام بنصرة حزبه! وكأن حزبه معصوم من الخطأ عصمة الإسلام! أو أنه يحتكر الإسلام حتى ولو كان فاشلا لم ينجح في شيء خلال فترة عمله ! نسأل الله لهم الهداية ولو لم يكن عندهم إلا النتائج التي حققوا دليلا على ضلالهم لكفتهم.

وواقع الساسة الشيطاني هذا له بعد تاريخي للأسف. فمنذ أن اغتُصب الحكم الشوري في الإسلام وجعل وراثيا بدأ التحول في الساسة من مهمتهم الأساس في زيادة رفاهية الأمة إلى الحرص على كرسي الحكم والمصالح الشخصية. حتى بلغ هذا الحرص مداه في عصرنا حيث بلغت الأمة أقصى درك في انحطاطها. مما جعل مهمة الطغاة والمجرمين والسفاحين في حربهم الإعلامية ضد السياسة والساسة سهلة ميسورة. فيحصد الأعداء من تلك الشيطنة للسياسة أمرين كل واحد منهما أخطر من الآخر. أولهما إبعاد الناس عن أي فرد أو أفراد يمتلكون بعد النظر والقدرة على المناورة وصناعة النصر. وبالتالي يستأصلون أي محاولة لإقامة هيكلية قيادية قوية من جذورها. وثانيهما وهو لا يقل خطورة عن الأول أنهم يفقدون العمل الجهادي أي قدرة للوصول إلى نتائج ملموسة.

إذ يوجهون أنظار الجميع إلى الجهاد والقتال فقط مع أنه وسيلة وليس غاية في ذاته كما هو واضح؛ فلا أحد يقاتل من أجل القتال فقط. لكنهم يقاتلون لتحقيق مصالح محددة على الأرض. فإذا تحققت المصالح المرادة بغير قتال كان أفضل وأولى لا يشك في ذلك عاقل. لا يعكر على ذلك ظن الكثير من الناس أن مصالح معينة في ظروف معينة لا يمكن تحقيقها بغير قتال. فهذا الظن أو الاختلاف عليه لا يعكر أنهم لو اتفقوا على إمكانية تحقيق المصالح بدون قتال لنحوا جميعهم نحوه. فثبت أن القتال وسيلة وليست غاية مع إمكانية الاختلاف على حتمية استخدامها أحيانا.

ومن الناحية العملية لا بد للقتال من نهاية إدارية سياسية كما سيأتي. والعجيب في الأمر أن الكثير من الإسلاميين والناضجين من الناس قد سقطوا في هذا الفخ. وصارت السياسة مدانة عندهم حتى في اللاوعي! ونسي هؤلاء أن سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم كان رسولا وسياسيا قاد أمة وترأس دولة حارب وتفاوض وتحالف وتعاهد.

 

السياسة هي: خدمة الأمة وتحقيق مصالحها

ينتشر بين الناس تعريف للسياسة على أنها: فن الخداع والكذب والاحتيال. وهو تعريف يناسب بقوة عملية شيطنة السياسة التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة. لكنه تعريف لو أخرج من جزئه المشيطِن لكان له علاقة بشكل عمل من أعمال السياسة الذي يتعلق ببعد النظر وخداع العدو وإجباره على سلوك طريق لا يكون فيه إلا هلاكه.

وينتشر أيضا تعريفها على أنها فن تحقيق الممكن. وهو من باب تعريف السياسة بصفة من أهم صفاتها. فالسياسة في الأصل مشتقة في العربية من "ساس الخيل" التي تعني خدمة الخيل ورعايتها والاعتناء بها. ومنها أشتق اسم "السايس" أو "السائس" أي الذي يعتني بالخيل ويرعاها ويصلح أمرها. و عليه فسياسي الأمة هو المعتني بها ومصلح أمرها.

وطبيعي للسياسي مُصلح أمر الأمة والمعتني بها أن يعمل على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من مصالحها ضمن الوضع الذي هو فيه. أي أنه يحاول ضمن الظروف المتاحة تحقيق الممكن من المصالح. وهكذا أخذت السياسة هذا التعريف. فلو جمعنا كل ما سبق عن السياسة خرجنا بتعريف واضح هو: رعاية مصالح الأمة بمكر ودهاء بالعدو يحقق أقصى الممكن من المصالح.

 

فتنتها وحاجة الناس لضبط ساستهم

من التعريف السابق تكون السياسة أشرف عمل يقوم به مخلص صادق. فإحسانه كما إساءته يعم ملايين الأمة كلها. والعمل في السياسة ليس متاحا إلا لأقل القليل المقتدر المنتج من الناس. ومن هنا تبدأ فتنتها. والأمة هي أهم ضابط من ضوابط صلاحية الشخص لها أو عدمه. إذ عليها أن لا تقبل إلا من انطبقت عليه شروط تجعله صالحا لها.

وأول هذه الشروط هو برنامج العمل المحدد القابل للتطبيق. فمن لا يمتلك برنامج عمل محدد تجاه القضية المطروحة لا يعرف كيف سيتحرك. أي أنه غير مؤهل لإدارة المنصب المرشح له. مما يعني استبعاده تماما. وهذا بدوره يعني أن الأمة نفسها ممتحنة أيضا. إذ لن تكون قادرة على اختيار قادتها المستحقين إلا ببذل كل فرد فيها الجهد ودراسة البرامج ومقارنتها لاختيار الأفضل. وإلا اختارت الأمة قادة إما فاشلين لكنهم حزبيين! وإما نصابين لن يزيدوها إلا رهقا وإجراما وسحقا.

فما لم يتعلم الشعب البحث والتنقيب عن السياسي القوي الأمين ويتعلم المثل السائر: "افرح لناصح يبكيك ولا تفرح لمن يطريك" سيخسر كثيرا. فمن يطريك يغلب عليه أنه يضحك عليك للحصول على حاجة في نفسه. ومن ينصحك وإن أبكاك فهو مريد للخير لك. كذلك السياسي الصادق سيحرص على مصالح الأمة التي تتضمن مصالحك وإن ظهر أنه لا يهتم بك بشكل شخصي. والسياسي الصادق ينصحك ويصارحك بحقيقتك حرصا عليك وعلى تغييرك إلى الأفضل. ولن ينافق لك ويبقيك على ضعفك ووهنك ويستخدمك لخدمة أغراضه. وقد حاول أمير الشعراء شوقي شرح أن الذي يفرح وينخدع بالمديح والإطراء ليس إلا متلبسا بصفة هي من صفات الغواني الساقطات فقال:

خدعوها بقولهم حسناء ....... والغواني يغرهن الثناء

ولعله يدرك الموضوع جيدا من يتذكر جمال عبد الناصر وكيف فتنت الشعوب العربية به مع أنه لم يصارحها يوما بأدوائها. وبالتالي لم يحاول فعلا أن يفعل بها أي خير. مما جعل جمال المنادي بالوحدة العربية الذي وصل إلى حكم دولة كانت تشمل مصر والسودان يقسمها إلى بلدين ويفشل في الحفاظ على وحدتها. وحين أجبره السوريون على الوحدة معهم أساء إليهم فكرههم بها وجعلهم عبرة لكل من يفكر بالوحدة من العرب. وحقق جمال عبد الناصر لإسرائيل تمام حلمها باحتلال كامل الأرض الفلسطينية. وأعطاها زيادة الجولان السوري وسيناء المصرية التي تفوق مساحة فلسطين ثلاثة مرات. طبعا بغض النظر عن إدخاله لكل أصناف القمع والقهر وسحق الإنسان وحكم العسكر.

فانطلى على الأمة فقط بطرحه شعارات الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار. وللأسف مازال النموذج الناصري هو السائد المحرك للأمة إلى اليوم. وكأن الأمة ما تزال تنخدع بمن يمدحها ويتزلف لها بغض النظر عن حقيقة أفعاله ونتائجها. أبرز أمثلته وضوحا اليوم هو "محور المقاومة والممانعة" الذي لم يحارب في حياته حربا دامت أكثر من 17 يوما إلا حرب الشعب السوري. ولم يقصف إلا المدن السورية. ولم يستخدم سلاحه الإستراتيجي إلا على أطفال سوريا.

من وضحت رؤية ما سبق عنده يستطيع أن يرى بجلاء أن الأمة هي المسؤولة عن فشل سياسييها؛ فمن لحظة قبول من لا يمتلك رؤيا ولا برنامج عمل إلى بقاء السكوت عليهم بعد فشلهم المرة تلو المرة تلو المرة. إلى تبرير أخطاءهم بسبب العواطف المحبة أو المصلحة الخاصة، كل ذلك يجعل الأمة هي المسؤولة. كذلك يستطيع العاقل أن يرى أيضا أن مصائب الأمة واحدة سواء في السلطة أو في الثورة.

فمصائب "محور المقاومة والممانعة" قائمة بحذافيرها ولكن بمسميات أخرى على مستوى من يظنون أنفسهم أبطالا للثورة السورية اليوم. فهم يبعدون وقد يحاربون من ينتقدهم أو حتى من لا يقدم آيات التبجيل لهم! مع ذلك يسكت الناس عليهم وكأن الناس لم يقوموا بثورة ضد الفاشلين المجرمين.

 

الحرب: سياسة حامية

تحقيق أقصى الممكن من المصالح الذي هو تعريف السياسة قد يحتاج أحيانا لاستخدام القوة مع العدو لإقناعه بالرضوخ. مما جعل علماء العسكرية يعرفون الحرب على أنها: سياسة حامية. أي أن الحرب ليست في حقيقتها إلا خروج مؤقت عن السياسة لتحقيق ظروف سياسية أفضل. ثم العودة بسرعة للعمل السياسي الخالي من العنف.

وبعض الأمثلة قد توضح ذلك ولنبدأ من الإسلام. فما هو هدف القتال في الإسلام ؟ لقد أوضح الله سبحانه أن رفع الظلم بشكليه من المبادأة أو الدفاع هو هدف القتال في الإسلام فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]. و قال سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].

فإذا كانت إقامة العدل ورفع الظلم هي الهدف من القتال في الإسلام والذي هو بالمناسبة هدف السياسة الإسلامية وحجر الزاوية فيها لم نقاتل أحدا يقيم العدل. أما الأمم الظالمة والتي لا تريد أن ترعوي ولا تريد الرجوع إلى العدل نضغط عليها لتحقيق عادل أهدافنا السياسية. فإن استمرت في غيها ولم نجد أي وسيلة لردعها إلا القتال، قاتلناها مضطرين لردعها الضغط عليها. وفي أول لحظة يتحقق فيها الهدف نوقف القتال فورا ونعود لعادل عملنا السياسي.

وسأكتفي بمثل آخر لكي لا أطيل وهو أن الدول الاستعمارية مثلا تقوم سياساتها على ابتزاز خيرات الأمم الأخرى وسرقتها. ولذلك تجدها تحاول سرقة تلك الخيرات بمختلف الطرق التي منها القروض ومنها عقود الاستثمار ومنها الانقلابات العسكرية ومنها التسهيلات ... إلى آخر تلك الوسائل. لكنها إن لم تنجح في تحقيق الاستلاب دخلت الدولة في حرب لتحقيق هدفها. فاجتاحت الدولة الضعيفة وفرضت عليها سرقة مواردها.

وهكذا لعله ثبت مما سبق وتبين أن الحرب وسيلة من وسائل تحقيق الأهداف السياسية. لكنها وسيلة حامية فيها قتل ودماء ودمار مع أنها تستخدم لخدمة نفس الأهداف التي يمكن تحقيقها في كثير من الأحيان بدون قتال. وتتحقق بالسياسة القادرة الواعية. بل وفي نظري أن الحرب أو القتال ليس إلا فشلا للسياسة (قد يكون تسبب بها الطرق الآخر). وأنه يجب علينا العودة عنه في أسرع وقت ممكن.

وهو ما فعله قدوتنا وقدوة البشرية سيد ساسة البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم. إذ تجده في كل حياته أبعد ما يكون عن القتال بله العنف. حتى قال كما روى مسلم في الصحيح: "يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ. وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ. وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ". وقال أيضا: "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ". رواه مسلم أيضا. فكانت سيرته العملية صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم كلها ابتعاد عن العنف. وحتى لما اضطره المشركون إلى القتال انتهز أول فرصة تتاح له للعودة إلى عن القتال.

حتى قال زمن الحديبية: "وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ فَأَضَرَّتْ بِهِمْ. فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً {يأمنون فيها ويستجمون} وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ. فَإِنْ أَظْهَرُ {على الناس، كانوا فيها بالخيار}؛ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا. وَإِلَّا فَقَدْ جَمَوْا {وقد جمعوا وأعدوا}. وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ". أي أنه صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم يطالب عدوه المقاتل المجرم بفتح طرق الحوار أو على الأقل تركه يجرب حظه مع بقية العرب. وأن تتعلم قريش الدرس بغيرها. فهل يدرك الإسلاميون والناس في الثورة اليوم لغة من هذا النوع؟

 

القتال بغير سياسة يضيع النصر:

لعل من العجائب أن يغيب عن مسلمي اليوم ونخبهم المثقفة حقيقة من حقائق التاريخ أن القتال بغير قدرات سياسية يضيع النتائج حتى مع الانتصار في القتال. فقد انتصر تاريخيا القائد العسكري التونسي: "حنى بعل" على القوات الرومانية نصرا مؤزرا. وكان قادرا على عبور جبال البرانس الأيبيرية ثم الألب الإيطالية. ومقارعة الرومان والانتصار عليهم في عدة وقائع. واحتل معظم إيطاليا حتى أضحت طريق روما نفسها مفتوحة أمامه على مصراعيها. لكنه لم يعرف كيف يتصرف ولم يدخل روما.

فبقي في معسكره بعيدا عن صناعة القرار في عاصمة أعداءه. مما أعطاهم فرصة بإعادة التجمع وإبراز قيادة جديدة كانت قادرة على إعادة الكرة وهزيمته. ثم ملاحقته فارا من مكان إلى مكان حتى القضاء عليه. فآثر "حنى بعل" أن يشرب السم بدل الوقوع أسيرا في يد أعداءه الذين حاربهم بكل بطولة وهزمهم بالأمس القريب. ومع أنه حقق تفوقا عسكريا ملحوظا كانت نتائجه واضحة في انتصاراته لكنه فشل فشلا ذريعا في تحركاته وأعماله السياسية.

وما كان من سبب ذلك الفشل إلا فقدان القدرة على وضع خطط واستراتيجيات تستفيد من النصر العسكري وتحوله إلى إنتصار في الحرب. فكانت النتيجة أن انقلب نصره هزيمة ماحقة. وشرب السم بدل التمكين وصناعة دولته. حتى قيل عنه أنه يعرف كيف ينتصر لكن لا يعرف كيف يستفيد من النصر. فهل نحن في الثورة السورية اليوم على منوال "حنى بعل"؛ نعرف كيف ننتصر لكنا لا نعرف كيف نستفيد منه حسدا وضغينة للمقتدرين فينا؟

 

السياسة تحقق النصر بغير قتال:

من جهة ثانية نجد أن السياسة تحقق نتائج عجز القتال عن تحقيقها. والأمثلة على ذلك كثيرة منها جزيرة قبرص المشهورة المتواجدة في البحر الأبيض المتوسط مقابلة لشواطئ الشام والتي فتحها الصحابة. ودفنت فيها الصحابية الجليلة أم حرام بنت ملحان. وبقيت قبرص تحت الحكم أو النفوذ الإسلامي أكثر من ألف سنة. وبلغ عدد المسلمين فيها عام 1777 أكثر من نصف السكان. ثم استغلت بريطانيا في سنة 1878 احتمال أن يشن الروس هجوما على الدولة العثمانية فأقنعتها بإعطائها بعض النفوذ في قبرص.

فوقعت بريطانيا اتفاقية مع الدولة العلية العثمانية حصلت من خلالها على حق إدارة الجزيرة مع الاحتفاظ بسيادة الدولة العثمانية عليها ومبلغ مالى تدفعه بريطانيا. مع استمرار دفع اهالى قبرص الجزية للدولة العلية. إضافة إلى مساعدة بريطانيا الدولة العثمانية ضد أي هجوم روسي. فاستقبل القبارصة اليونان القرار بالترحاب حيث وجدوه خطوة في طريق الانضمام إلى اليونان. وكان أول ما فعلته السلطات البريطانية هو تكوين مجلس محلي يعين فيه ستة موظفين بريطانيين وينتخب القبارصة فيه 9 من القبارصة اليونانيين و 3 من القبارصة الأتراك (المسلمين) حسب النسب بين الجماعتين في ذاك الوقت بزعمهم.

بقي الأمر كذلك إلى سنة 1914 حين دخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا فأعلنت بريطانيا ضم قبرص إليها. وفي سنة 1915 عرضت بريطانيا على اليونان إعطائها قبرص مقابل مشاركة اليونان في الحرب إلى جانب الحلفاء الأمر الذي رفضته اليونان. ثم بموجب معاهدة لوزان الشهيرة تخلت الدولة العثمانية عن قبرص لبريطانيا سنة 1923. وفي سنة 1925 أعلنت بريطانيا قبرص إحدى مستعمراتها. وهكذا أخذت بريطانيا قبرص من الدولة العثمانية بدون إطلاق رصاصة حرب واحدة.

ولعله من عجائب التاريخ أن نجد أن الإنكليز في مناوراتهم السياسية هذه قد تعلموا واستفادوا من رسولنا محمد صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم أكثر من استفادتنا نحن اليوم منه كما يرى ذلك واضحا من نظر في أعمال الرسول صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم السياسية. وخاصة من نظر إلى أعماله في صلح الحديبية مثلا حين آثار الهدنة مقابل مزايا نشر الدعوة بحرية في زمن السلم.

العقيدة السياسية والعمل السياسي:

تقوم "العقيدة السياسية" عند المسلمين على مبدأ الحق والعدل ورفض الظلم والباطل. فالعقيدة السياسية هي الأساس الذي تقوم الأعمال السياسية على خدمته. أما "العمل السياسي" فيمكن فيه قبول شيء من الضرر في مقابلة منع الضرر الأكبر أو قبول شيء من الظلم لإجبار العدو على سلوك طريق تحقق الحق والعدل على نطاق أوسع أو تجعله ملزما له بتحقيق عدل تام بعد حين. كما يراه في فعله الشريف صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم كل متخصص تأمل فيه.

 

المناورة أو الأعمال السياسية:

لعل طلبة العلم أو الإسلاميين اليوم أبعد الناس عن السياسة والمناورات السياسية الفعالة حتى ولو كانوا حزبا سياسيا يفتخر بأن القدرة السياسية هي أهم ميزاته. فخلال النصف قرن الماضي لم نر مناورة سياسية أو تحرك سياسي ناجح واحد لأي شخص أو حزب أو تجمع إسلامي إلا ما كان من رجب طيب أردوغان وعبد الله غول وحزبهما في تركيا. ففقدان الإسلاميين للقدرات السياسية والمرونة شكل واقعا إسلاميا بائسا هذه الأيام. هذا الواقع المخزي الذي يدل على تخلف ورجعية وفقدان بصيرة.

يناقضه مناقضة مذهلة المرونة السياسية الفائقة التي تمتع بها سيدنا محمد صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم وصحابته الكرام من سلف الأمة. فقد كان صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم مثلا في وضوح الرؤية والمرونة القصوى. وكان يمتلك إستراتيجية وبرامج عمل واضحة جدا. وكان لديه صلى الله عليه وإخوانه وآله وسلم حلول لكل حالة قد يواجهها. ولنرى مثلا واحدا هنا: هو صلح الحديبية. ففيه خرج رسول الله صلى اله عليه وإخوانه وآله وسلم مستفيدا من كل القوانين والأعراف العربية التي يحترمها الجانبان.

تلك القوانين التي تسمح للحاج والمعتمر المدني الذي لا يحمل سلاحا بدخول الحرم وأداء النسك. وهكذا استفاد القائد السياسي الفذ من الوضع القائم ليحرج قريشا أشد إحراج. فهو إما أن يجبرها على خرق القانون المتعارف عليه. ومنعه من أداء نسك وفي هو بشروط أداءه فكان مدنيا ولا يحمل سلاحا. فيفقدها بذلك أي شرعية أو احترام في نظر كل العرب. الذين يكنوا لها كل الاحترام فقط لسدانة الحرم. فإن خرقوا عهود السدانة قطعوا ما بينهم وبين الناس. أما إن سمحت له، دخل مكة وتحدثت العرب أنه دخلها عنوة رغم أنف قريش!

وهكذا تكون قريش خاسرة مهما كان خيارها. هذه هي القدرة السياسية التي تستفيد من الواقع القائم لتكسب أعلى مردود بعبقرية وذكاء وحسن أداء. خاصة أن حامل الدعوة يدور مدار دعوته حيث دارت. أي أن أهم أولوياته نشر دعوته وتعريف الناس عليها. وهو هكذا يستفيد من جميع النتائج النهائية لعمله السياسي. فدخول مكة لأداء النسك يفتح له طرق قبائل العرب كلها بعد أن دخل مكة عنوة رغم أنف قريش ودون أي خرق للأعراف والقوانين الدولية! وإن منعته قريش فتحت أيضا طرق كل القبائل لأن قريشا أصبحت معتدية ظالمة غاشمة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين