نساء مؤمنات… فاطمة الزهراء رضي الله عنها - 1 -


العلامة: يوسف القرضاوي
عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: ))سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، ويربني ما رابها(( رواه الشيخان.
اللهم هؤلاء أهلي:
اسمها فاطمة، ولقبها الزهراء، اسم له في التاريخ رنين، انتسبت إليه أسر فعرفوا بين الناس بالأشراف، واقترنت به دول فسموا أنفسهم بالفاطميين.
أبوها: محمد رسول الله وكفى.
وأمها: خديجة بنت خوليد وحسبك.
وزوجها  علي بن أبي طالب، وحفيد عبد المطلب، ونجيب هاشم، وفتى قريش، وفارس الإسلام.
وابناها الحسن والحسين ريحانتا رسول الله، وسيدا شباب أهل الجنة، وهي وزوجها وابناها خاصة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرب الناس إليه، وأعزهم عليه...
روى مسلم أنه حين نزلت هذه الآية:[ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ{آل عمران:61}. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين وقال: ))اللهم هؤلاء أهلي((.
وأخرج الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء وقال:))اللهم هؤلاء بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً((.
ميراث وتربية:
الخطوط العريضة لمزاج الإنسان وتفكيره ترسمها يد العوامل الوراثية التي تنقل إليه من أبويه وأجداده، ما قدر له من خلقه وخُلقه.
والخطوط المفصلة لخلقه وسلوكه وشخصيته كلها تحددها البيئة التي يعيش فيها، وبخاصة البيت الذي يضمه في صغره، أي أمه وأبوه.
هذا ما قررته علوم الحياة والنفس والأخلاق والاجتماع.
وهو نفس ما قرره الدين من قبل، حين اعترف بأثر الوراثة، فقال: ))تخيَّروا لنطفكم((.
واعترف بأثر البيئة فحذر من المرأة الحسناء في المنبت السوء.
وقد تهيأ لفاطمة من المواريث الأسرية أعزها وأغلاها، ومن البيئة المنزلية، اشرفها وأنقاها.
وما ظنك بفتاة ورثت عن آبائها وأمهاتها ما شاء الله لها من مجادة قريش، وأريحية هاشم، وسؤدد عبد المطلب، وطهارة عبد الله، ومكارم محمد، وفضائل خديجة بنت خويلد، وآمنة بنت  وهب؟
وما ظنك بفتاة تولد في بيت يعمره الحب، ويظلله الصفاء، بين أب يلقب في قومه بالأمين، وأم ت لقب في أترابها بالطاهرة، هذا سيد شباب قريش وتلك سيدة نساء قريش؟!!
ولدت فاطمة رضي الله عنها قبيل البعثة بزمن اختلفت في تحديده الروايات: خمس سنوات أو أقل أو أكثر؟ المهم أنها ولدت في تلك المرحلة التي كان القدر يعد فيها أباها لتلقي أعظم رسالة في الوجود: مرحلة التأمل العميق، والتعبد الطويل، والخلوة في غار حراء كل عام، وفي تمام الأربعين أوحى الله إليه، وبعثه إلى الناس كافة، وإلى قومه خاصة، فشاء الله لفاطمة أن تنشأ في أحضان النبوة، وتدرج في حجر الرسالة، وكأنما كانت تكبر مع الدعوة، وتنمو مع انتشارها.
شهدت أباها ـ واعية أو غير واعية ـ يدعو إلى دينه سراً، ثم ينذر عشيرته الأقربين، ثم يصدع بأمر ربه معرضاً عن المشركين، منادياً على جبل الصفا، ثم يحمى الوطيس بينه وبين قومه فيسفه أحلامهم، ويهزأ بأصنامهم، ويضل آباءهم، فيعنفون عليه في الخصومة، ويناصبونه العداء، ثم يدخل الشعب، فتدخل معه ومع أمها وأخواتها، وتذوق مرارة الجوع، وتحس ألم المقاطعة والحرمان، ويتجرع كئوس الأذى في نفسه وأصحابه، بالقول السيئ  تارة، وبالفعل القبيح طوراً.
ترى الفتاة كل هذا، وتحسه، وتلمسه، ويفعل ذلك في قلبها فعل التيار الكهربائي في الأسلاك، وتسهم في درء عن أبيها، حيناً بيديها، وأحياناً بدموع عينيها!! وماذا تملك جويرية صغيرة لأب عطوف يؤذي أمام سمعها وبصر ها، إلا عبرات تذرفها؟!
كان علي السلام يصلي يوماً بالكعبة ـ وبعض سفهاء المشركين جالسون ـ فانبعث أشقاهم فأتى بسلا جزور فألقاها عليه، فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة فأزالت عنه الأذى.
وكانت أم جميل امرأة أبي لهب تلقي الأقذار والنجاسات أمام بيته، فيزيلها في هدوء ومعه فاطمة تحاول أن تعيد إلى المكان نظافته وطهارته.
ولقيه مرة سفيه من سفهاء قريش، فرمى على رأسه تراباً، فرجع إلى بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه فاطمة فجعلت تغسل عنه  التراب وهي تبكي ـ وأشق شيء على نس الأب أن يرى دموع بنيه الصغار ـ وأشق منها أن يرى دموع بناته الصغيرات، واشق من هذا وذاك أن تكون هذه الدموع من أجل الأب نفسه ـ فما أن رأى النبي الكريم دموع ابنته على خديها حتى ثبت فؤادها، وقال لها مبشراً: )) لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك((.
وظلت الرحى دائرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، إيذاءً من جانبهم، وإصرار من جانبه صلى الله عليه وسلم، حتى كانت الهجرة إلى المدينة، حيث هاجر ومعه أبو بكر، ثم بعث زيد ابن حارثة، وأبا رافع إلى مكة ليأتيان بأهله، ففعلا، وقدما عليه المدينة بزوجته سودة بنت زمعة، وابنتيه فاطمة وأم كلثوم، واستقر بهم المقام في الدار الجديدة للإسلام.
علي يخطب فاطمة:
كان للنبي عليه السلام أربع بنات كلهن من خديجة، أكبرهن زينب، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.
أما زينب فتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، وأمه هالة بنت خويلد. وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجتا من ابني أبي لهب: عتبة وعتيبة، فلما نزلت سورة المسد، ضغط أبو لهب وامرأته على ابنيهما أن يطلقا ابنتي محمد فطلقاهما، وتزوجهما ذو النورين عثمان بن عفان واحدة بعد الأخرى.
وأما فاطمة فقد كانت أصغرهن، ولم تبلغ مبلغ النساء إلا في المدينة، وهناك أراد علي بن أبي طالب أن يتقدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطبتها، فذهب إليه يقدم رجلاً، ويؤخر أخرى، وتدفعه الرغبة والحب، ويمنعه الحياء والفقر.
وها هو يحدثنا فيقول: ))أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ـ والله مالي شيء ـ ثم ذكرت صلته وعائدته، فخطبتها إليه، فقال: وهل عندك شيء؟ فقلت: لا، قال: فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قلت: هي عندي، قال: فأعطها إياها(( فكانت تلك الدرع مهر بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً للآباء في تزويج بناتهم أن يكونوا ميسرين لا معسرين.
وضرب على مثلاً للشباب المؤمن حين يقدم على الزواج ـ وإن لم يكن معه فضة ولا ذهب ـ معتمداً على معونة ربه، وعزيمة قلبه، وحق على الله أن يعين كل شاب يريد العفاف.
وضربت فاطمة رضي الله عنه مثلاً للفتاة المؤمنة التي يهمها من الرجل إيمانه وخلقه، لا درهمه وديناره، يهمها ما يحمل بين جنبيه من نفس، لا ما يحمل بين يديه من نفيس.
لقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن خير الصداق أيسره، وقال لباغي الزواج: )) التمس ولو خاتماً من حديد(( وحينما أخبره بعض الصحابة أنه تزوج المرأة على أربع أواق قال له متعجباً مستكثراً: كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل!.
تلك هي تعليماته النظرية، وإرشاداته القولية. وهو فقي زواج ابنته يضيف إلى القول الفعل، وإلى التوجيه التنفيذ، وما أحسن القول يزينه العمل، وما أجمل النظرية يؤكدها التطبيق، وما أروع التشريع يسنده التنفيذ، وما أنفع التربية تقوم على الخلق العملي، والأسوة الطيبة!!.
عرس نموذجي:
 عقد علي على فاطمة، ولم يدخل بها إلا بعد أشهر، وذلك بعد انتصار الإسلام في بدر، وكأنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتم الفرحة بنعمة الله عليه، فبنى هو بعائشة، وبنى علي بفاطمة.
أتدري ماذا كان جهاز فاطمة الزهراء؟!
كان جهازها خميلة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحا وسقاء وجرتين، ذلك هو جهاز سيدة النساء، وكريمة سيد الأنبياء!!.
أتدري كيف تم العرس؟.
يقول جابر بن عبد الله: حضرنا عرس علي، فما رأيت عرساً كان أحسن منه، حشونا البيت طيباً، وأتينا بتمر وزبيب فأكلنا، وكان فراشهما ليلة عرسهما أهاب كبش!!
بهذه البساطة والتواضع تم هذا العرس المبارك، كما تم من قبل الزواج والمهر والجهاز بلا تعقيد ولا تعويق، ولا شطط ولا إسراف.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي في ليلة الزفاف: ))لا تحدث شيئاً حتى آتيكما، فذهب إليهما فدعا فاطمة، فقامت إليه تعثر في ثوبها من الحياء، فقال لها: إني لم آل أن أنكحك ـ أي أزوجك ـ أحب أهلي إلي، ودعا بماء فتوضأ منه، ثم نضح منه عليهما، وقال: اللهم بارك عليهما، وبارك فيهما، وبارك لهما في نسلهما((.
وتلقفت السماء الدعاء، فبارك الله في نسل علي وفاطمة، وانقطع نسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا منها رضي الله عنها.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: منبر الإسلام السنة 15، ذو القعدة 1377 العدد العاشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين