نزاهة الوالي العام عن المال العام النموذج : عليٌ رضي الله عنه - 2 -

أوردنا فيما سبق نماذج لنزاهة الوالي العام عن المال العام من حياة العمرين ( الصديق والفاروق رضي الله عنهما ) واليوم من حياة ختن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه – عليِ بن أبي طالب – رضي الله عنه – وذلك تجسيدا للقدوة فى هدي الخلفاء الراشدين للحديث الصحيح " عَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ " صحيح الترغيب والترهيب (1/ 10)

 

 وذلك من خلال عدة صور الأولى : تقسيمه لأموال بيت المال دوريا بالسوية والعدل ، مع عفة ونزاهة عالية، الثانية : كَفِّه لابنته عن التميز عن باقى بنات المسلمين بشيء من بيت المال دونهن، الثالثة : إشعاره لأخيه عقيل أن ما أخذه فوق عطائه فهو سرقة وغلول للحديث الصحيح " عَن بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ» صحيح الترغيب والترهيب (1/ 191) ودونك الشواهد والأدلة :

 

الصورة  الأولى : قال أبو الحسن: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقسم بيت المال في كل جمعة حتى لا يبقى منه شيئا؛ ثم يُفرش له ويقيل  فيه، ويتمثل بهذا البيت:

 

هذا جناي وخياره فيه ... إذ كلّ جان يده إلى فيه

 

كان علي بن أبي طالب إذا دخل بيت المال ونظر إلى ما فيه من الذهب والفضة قال:  

ابيضّي واصفرّي وغرّي غيري ... إني من الله بكلّ خير

 

الصورة الثانية : عن علي بن أبي رافع. قال: كنت على بيت مال علي بن أبي طالب وكاتبه. فكان في بيت ماله عقد لؤلؤٍ كان أصابه يوم البصرة فأرسلت إلي بنت علي بن أبي طالب فقالت لي: إنه قد بلغني أن في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ. وهو في يدك وأنا أحب أن تعيرنيه أتَجمَّل به في يوم الأضحى. فأرسلت إليها: عاريةٌ مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيامٍ يا بنت أمير المؤمنين. فقالت: نعم عاريةٌ مضمونةٌ مردودة بعد ثلاثة أيام. فدفعته إليها وإذا أمير المؤمنين رآه عليها فعرفه. فقال لها: من أين جاء إليك هذا العقد. فقالت: استعرته من ابن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزين به في العيد ثم أرده. فبعث إلي أمير المؤمنين فجئته فقال لي: أتخون المسلمين يا ابن أبي رافع. فقلت: معاذ الله أن أخون المسلمين. فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم. فقلت: يا أمير المؤمنين إنها بنتك وسألتني أن أعيرها تتزين به. فأعرتها إياه عاريةً مضمونةً مردودة ، على أن ترده سالماً إلى موضعه. فقال: رده من يومك وإياك أن تعود إلى مثله فتنالك عقوبتي. ثم قال: ويل لابنتي. لو كانت أخذت العقد على غير عاريةٍ مردودةٍ مضمونةٍ لكانت إذن أول هاشميةٍ قطعت يدها في سرقةٍ. فبلغت مقالته ابنته فقالت له: يا أمير المؤمنين أنا ابنتك وبضعةٌ منك فمن أحق بلبسه مني. فقال لها: يا بنت ابن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق. أكل نساء المهاجرين والأنصار يتزين في مثل هذا العيد بمثل هذا. فقبضته منها ورددته إلى موضعه[1].

 

الصورة الثالثة : أورد الذهبي فى تاريخه : أَنَّ عَقيلًا سَأَلَ عَلِيًّا فَقَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَفَقِيرٌ. فَقَالَ: اصْبِرْ حَتَّى يَخْرُجَ عَطَائِي، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِرَجُلٍ: خُذْ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى الْحَوَانِيتِ، فَقُلْ: دُقَّ الْأَقْفَالِ وَخُذْ مَا فِي الْحَوَانِيتِ. فَقَالَ: تُرِيدُ أَنْ تَتَّخِذَنِي سَارِقًا! قَالَ: وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَتَّخِذَنِي سَارِقًا وَأُعْطِيَكَ أَمْوَالَ النَّاسِ. قَالَ: لَآتِيَنَّ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَأَتَى مُعَاوِيَةَ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفٍ، ثُمَّ قَالَ: اصْعَدْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاذْكُرْ مَا أَوْلَاكَ عَلَيٌّ وَمَا أَوْلَيْتُكَ، قَالَ: فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ أَنِّي أَرَدْتُ عَلِيًّا عَلَى دِينِهِ، فَاخْتَارَ دِينَهُ عَلَيَّ، وَأَرَدْتُ مُعَاوِيَة عَلَى دِينِهِ فَاخْتَارَنِي عَلَى دِينِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ أَحْمَقَ!!"[2] تاريخ الإسلام ت بشار (2/ 423)

 

وهنا نُورد شهادات له بالعفة والنزاهة

 

الشهادة والتزكية الأولى : دخل رجل على الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد، أنهم يزعمون أنك تبغض عليّا؟ قال: فبكى الحسن حتى اخضلّت لحيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهما صائبا من مرامي الله على عدوه، وربانيّ هذه الأمة وذا فضلها وسابقتها، وذا قرابة قريبة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لم يكن النّومة عن رسول الله، ولا الملولة في ذات الله، ولا السّروقة  لمال الله؛ أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، وأعلام بينة، ذلك عليّ بن أبي طالب يا لكع[3].

 

الشهادة والتزكية الثانية : حج مُعَاوِيَة فَسَأَلَ عَن امْرَأَة [4]من بنى كنَانَة كَانَت تنزل بالحجون يُقَال لَهَا دارمية الحجونية وَكَانَت سَوْدَاء كَثِيرَة اللَّحْم فَأخْبر بسلامتها فَبعث إِلَيْهَا فجيء بهَا فَقَالَ مَا حالك يابنة حام فَقَالَت: بخير ولست بحامٍ أُدعى ! إِن عِبْتنى !!! أَنا امْرَأَة من بنى كنَانَة قَالَ صدقت أَتَدْرِينَ لم بعثت إِلَيْك ؟ قَالَت : لَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله . قَالَ بعثت إِلَيْكِ لِأسألك علامَ أَحْبَبْت عليًّا وأبغضتنى ، وواليته وعاديتنى. قَالَت أَو تعفينى قَالَ : لَا أُعْفيك. قَالَت أما إِذَا أَبيت فإنِّى أَحْبَبْت عليا ؛ على عدله فى الرّعية ، وقسمه بِالسَّوِيَّةِ ، وأبغضتك على قتال من هُوَ أولى مِنْك بِالْأَمر ، وطلبتك مَا لَيْسَ لَك بِحَق ، وواليت عليا على مَا عقد لَهُ رَسُول الله من الْوَلَاء ، وحُبِّه الْمَسَاكِين، وإعظامه لأهل الدّين ، وعاديتك على سفكك الدِّمَاء ، وجورك فى الْقَضَاء وحكمك بالهوى.  قَالَ : فَلذَلِك انتفخ بَطْنك وَعظم ثدياك وَرَبَتْ عجيزتك قَالَت : بِهنْدٍ وَالله كَانَ يُضْرب الْمثل فى ذَلِك لَا : بِـى قَالَ مُعَاوِيَة : يَا هَذِه اربعى فَإنَّا لم نقل إِلَّا خيرا ، إِنَّه إِذا انتفخ بطن الْمَرْأَة تَمَّ خَلْق وَلَدهَا وَإِذا عظم ثدياها تروى رضيعها وَإِذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فَرَجَعت وسكنت. قَالَ لَهَا : وَيَا هَذِه هَل رَأَيْت عليا قَالَت إى وَالله . قَالَ فَكيف رَأَيْته قَالَت : رَأَيْته وَالله لم يفتنه الْملك الذى فتنك ، وَلم تشغله النِّعْمَة الَّتِى شغلتك . قَالَ فَهَل سَمِعت كَلَامه قَالَت : نعم وَالله فَكَانَ يجلو الْقُلُوب من الْعَمى كَمَا يجلو الزَّيْت صدأ الطست . قَالَ صدقتِ فَهَل لكم من حَاجَة قَالَت أَو تفعل إِذا سَأَلتك قَالَ نعم قَالَت : تعطينى مائَة نَاقَة حَمْرَاء فِيهَا فَحلهَا وراعيها . قَالَ تصنعين بهَا مَاذَا ؟ قَالَت أغذو بألبانها الصغار ، وأستحيى بهَا الْكِبَار ، وأكتسب بهَا المكارم ، وَأصْلح بهَا بَين العشائر . قَالَ فَإِن أَعطيتك ذَلِك فَهَل أحلُّ عنْدك مَحل على بن أبي طَالب . قَالَت : مَاء وَلَا كصداء ومرعى وَلَا كالسعدان وفتى وَلَا كمالك يَا سُبْحَانَ الله أَو دونه – إنها بذلك تُريه أن عليًّا عندها بمنزلة لا تُدانيها منزلة على الرغم من هذا العطاء أقول لمنزلته من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وسبق قدمه فى الإسلام - فَأَنْشَأَ مُعَاوِيَة يَقُول:

 

 إِذا لم أجُد بالحلم منى عَلَيْكُم          فَمن ذَا الذى بعدى يُؤمل للحلم خذيها هَنِيئًا واذكرى فعل ماجد               جَزَاك على  طول الْعَدَاوَة والصرم

 

. ثمَّ قَالَ أما وَالله لَو كَانَ عليٌ حيًّا مَا أَعْطَاك مِنْهَا شَيْئا قَالَت لَا وَالله وَلَا وبرة وَاحِدَة من مَال الْمُسلمين. فضحك معاوية، وأمر لها بما سألت وردها مُكرَّمة[5]. هذا وبالله التوفيق ، ومنه وحده العصمة من الخطأ والخلل والزلل فى القول والعمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] [مجاني الأدب في حدائق العرب 2/ 173]

[2] أسد الغابة 3/ 423، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 84، وانظر: البيان والتبيين للجاحظ 2/ 174، والعقد الفريد 4/ 4، 5.

[3] [العقد الفريد 5/ 63]

[4] من شيعة علي رضي الله عنه

[5] [ربيع الأبرار ونصوص الأخيار 3/ 152]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين