نداء إلى العلماء الموقعين عن رب العالمين في سورية

 

مضت أيام وأسابيع وشهور على أحداث بلدنا الغالي , وضجت بأخبارها العوالم والأصقاع , وطارت بوقائعها الأخبار بكل وسائل الإعلام , ولقد طال أمد هذه الحوادث بالنسبة لغيرها وخاصة وهي تمضي على نمط واحد يتصاعد يوما بعد يوم , إنه نمط هذا التقابل الذي انقلب مع الأيام تصادما , كان تقابلا بين حناجر تطالب بحريتها وكرامتها وبين نظام يُطالب بالاستجابة والإذعان لها , ولكن وبقدر من الله تعالى انقلب الأمر إلى صدام بين أجساد عارية وسلاح غاشم , والمهم وقبل الدخول في خضم الآراء المتضاربة في تفسير هذا الحدث الجليل , نحب أن نذكر بأمر وهو رأس كل الأمور, وبقضية هي أم كل القضايا , الا وهي قضية موقف السادة العلماء , نذكرها الآن وبعد مرور هذه الأشهر , ونخصها بالذكر من بين كل القضايا لاعتبارات عديدة , أولاها : أن امتنا ومن زمن بعيد وعبر اعماق التاريخ يُنظر إلى علمائها بأنهم قادة الأمة وسادة المواقف وورثة النبوة والموقعون عن رب العالمين في كل قول يقولونه أو حكم يصدرونه أو موقف يقفونه , إنهم من تجثو بين ايديهم الركب وهم يبلغون رسالات الله عندما يقفون على منبر رسول الله , أو عندما يجلسون مجالس تبليغ شريعة الله أحكاما ومناهج حياة , إنهم ائمة هدى في قيامهم وركوعهم وسجودهم , وأئمة هدى في مساجدهم ومدارسهم , إنهم حملة الأمانة في تربية الأجيال بدءا , وفي تأسيس الأسر ثانيا , وفي إخراج الأمة الخيرة للعالمين , وناصحو القيادات , ومراقبو الأمة من أعلى منابرها ,فلا منبر أعلى من منبر رسول الله, كتبهم هي عمدة كل سالك , هي مراقي الفلاح لكل طالب , وسلم الوصول لكل سائر, معتمدين على فتح الباري في كل شروحهم , ويتلألأ جوهرة التوحيد قي أعماق قلوبهم , مهمتهم إحياء علوم الدين عن طريق التدبروالجرح والتعديل لصيانة منهاج القاصدين لدرب سيد المرسلين , وقد قرروا من أجل ذلك كله بأن مداد العلماء خير وأفضل من دماء الشهداء

وثانيها: إن تجمعات الأمة بكل أطيافها وأجيالها إنما هي تحت ريادتهم , فالجميع يصغي إليهم من القمة إلى القاعدة , فبين أيديهم يجلس الحاكم والمحكوم , فمن الذي يذهب إلى غيرهم إذا ما أراد إثبات عبوديته لله , ومن الذي يصغي إلى سواهم إذا ما أقيمت صلوات الجماعة في مناسبات اجتماع الأمة في أفراحها واستغاثتها.
وبعد هذين الاعتبارين يمكن أن أستعرض الحالة الراهنة في تفصيل مواقف هؤلاء السادة العلماء..
إن أمتنا ترى اليوم وهي تراقب مواقف قادتها من اهل العلم ووراث النبوة والموقعين عن رب العالمين ,أن هذه المواقف قد توازعتها آراء مختلفة وبيانات  متناقضة  وهذا بحد ذاته هو الذي أقلق الجميع ولا يزال يقلقهم و وروّع الناس على مستقبلهم أكثر مما اصابهم في ابدانهم وأموالهم , فلا شيء اصعب من تفرق آراء العلماء , ولا شيء يخيف اكثر من تناقض المواقف فيما بينهم وخاصة ونحن نرى هذا الاختلاف يقوم بين أبناء مسجد واحد أو مدرسة واحدة , مع العلم ان الاختلاف بين الاراء هو امر إيجابي مقرر في ديننا وهوآية من آيات حضارتنا , وان ما يراه أحد العلماء من خلال نظره فيما يصله من معلومات وما يزود به من وثائق أمر لا يمنع منه احد , بل يمجده كل عاقل وتمتدحه كل الشرائع, ولكن مهما بلغ عدد المختلفين في آرائهم فإنه ينبغي بعد ذلك على كل واحد منهم أن لا يحول رأيه إلى موقف نهائي يوجه من خلاله الأمة أو يحاكم الأمور إليه في كل بيان, وخاصة عندما تكون المسألة مسألة أمة و المشكلة مشكلة جماعتها , فإن أي عالم لا يشكل مهما بلغت مرتبته إلا فردا واحدا , كما لا تشكل آراؤه في مدرستة الفكرية إلا مؤسسة واحدة,
ومن الخطر بمكان أن تتحول الآراء الاجتهادية إلى مواقف فردية وكلّ منها يناقض الآخر في توجيهه وخطابه وبيانه للأمة , والمطلوب إذا ما أدركنا ذلك هو اجتماع أصحاب الآراء المختلفة والذين تعتبرهم الأمة قادة سفينها والمحدد لمسارها في بحر الأحداث المتلاطمة لتصل بها إلى شاطئ النجاة والسلامة , ولن يكون ذلك إلا بأن يحمل كلّ رأيه بأدلته ووثائقه إلى مائدة البحث ليجتمع مع أمثاله للتداول بكل صدق وإخلاص فيما يرتئيه للوصول , ومن خلال البصيرة العامة إلى الرأي المسدد الذي تعطيه الشريعة كل الاعتبار وتمنحه قوة النفوذ في قيادة الأمة وتباعد الجميع عن الضلالة التي قد تصيب الراي الفردي الاجتهادي كما هو معلوم , فأمة الذكر لا تجتمع إلا على خير , ولا تصل بالأفراد واجتهاداتهم إلا إلى الرشد , لذا يجب أن نقرر في كل مجالسنا وابحاثنا بأنه لا يجوز على الإطلاق شرعا ودينا وعرفا وأخلاقا لفرد مهما بلغ علمه أن يعتمد رايه وحده في توجيه هذه الأمة أو الحكم على مواقفها أو تحديد مسارها , بل إن مساره هو بالذات يعتبر ملك الأمة في المنظور النهائي , ولا ينبغي أن يحدد إلا من عقله الراشد المتمثل في العقل الجمعي المستعين ببصيرة أهل الذكر تحت ظل قوله تعالى {وامرهم شورى بينهم} 
نعم ايها السادة العلماء , إننا إذا ما استبعدنا آراء الرسميين من العلماء فإننا وبعد هذه الفترة الشديدة من الأحداث نسمع الآراء المتناقضة المتمثلة بما يلي :
1ـ فريق يرى أن هذه المظاهرات إنما هي استجابة لأجندة خارجية مبهمة لا تعرف أهدافها ولا غاياتها , ويغلب عنده أنها دسيسة خارجية استجاب لها بسطاء أو مغرضون , واندس فيها مخربون , وتمضي إلى تحقيق مخطط عدواني لتقسيم البلاد وإضلال العباد,وهي نظرة قد لا يريد أصحابها تنديدا باحد أو بخس قيمة جهد يبذله احد وإنما هو بيان لما يرتئيه وقد يلتمس بذكره النصح الخالص ودفع كيد عن الأمة من وجهة نظره , ومن خلال هذا نعتبره رأيا يمكن مناقشة الاجتهاد فيه .
2ـ فريق يرى أن هؤلاء أهل حق ويطالبون بحقوقهم , وهم اهل خير وبر يريدون تحقيق حريتهم وكرامتهم , آمنوا بأن السبيل هو خروج مسالم لا يبغي خرابا لبلد ولا إساءة لأحد , ولكن يريد القوت الضروري من حريته , والحق الجليل من كرامته ..
3ـ هناك فريق آثر الصمت فلم يقل حقا رولكن قرر ايضا أن لا يقول باطلا ..
لهذا فإننا ننادي اليوم باسم الأمة علماء الأمة أن يجتمعوا ليشكلوا عقل الأمة من خلال تبادل الرأي على اختلافه فيما بينهم من أجل تحديد راي جمعي يحدد الموقف المناسب الذي يمثله كل فرد منهم في موقعه ومؤسسته وتصريحاته وفتاواه ونظره , نعم فإنه لا يمكن ولا يسمح لأي فرد أن يحدد مستقبل البلاد والعباد وهو قابع بفرديته يستولي على منبر الأمة , منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصعد إلى قمته من خلال فردية اجتهاده او حدود نظرته , فإلى الجميع ننادي أن اتقوا الله يا علماء الأمة , يا خطباء المنابر ويا رواد العلم والمعاهد , وأجمعوا أمركم وفق شرع ربكم فالمقام عظيم والخطب شديد ,
إلى الاجتماع الإغاثي نناديكم أن هلموا من كل المحافظات إلى لقاء رشد سريع على كلمة واحدة وموقف واحد , وإلا فالشعب سيحدد موقفه وفق ما تلقاه واصغى إليه من منابركم ودروسكم ومؤلفاتكم , هذا مع العلم بأن اجتماعكم لن يتمكن أحد من منعه , وليس فتنة يخشى إثارتها , ودعوتكم لهذا اللقاء دعوة شرعية تحدد موقف كل فرد منها قبولا أو رفضا , وعندما تحدد المواقف تعرف الأمة قادتها وروادها في واقع احداثها وبعد انجلاء الغمة عنها , ولعل من إيجابيات تطاول الأحداث رغم كارثيتها انها ستحدد هوية الرجال كما تحدد هوية الرواد ،
وأخيرا اقول: إننا على يقين بأن توجيه الدعوة بخصوصها إلى علماء الأمة ليس من أجل أن تخطط للأحداث تفاصيل جزئياتها , ولا للمستقبل تفاصيل سياسته ومساره , وإنما هي وبحدود مسئوليتها واختصاصها مدعوة لتضع خطوط الرشد لهذه الأمة مسارا وتوجيها ومستقبلا, لإدراكنا بأن لكل أمر أهله , ولكل قضية أهل ذكر واختصاص لا يمكن ان يقوم به غيره , وعلينا أن ندرك بأن القيام بهذه المسئولية من خلال اجتماع كلمة العلماء هي التي تحقق للأمة خيرها في عاجلها وآجلها بإذن الله , وهي المهمة العظمى , مهمة الموقعين عن رب العالمين, وأن التعامل معها بشكل فردي لن تكون ثمراته إلا حفاظا على منبر كوظيفة , أو على منصب مدير كمدرسة , أو على محاضر في معهد أو فضائية , او كاتب في مجلة أو صحيفة , أو إمام مسجد يتحكم فيه موظف رسمي في مديرية أوقاف , وهذا ليس مبتغى العالم في الدنيا والآخرة , وإن كان البعض يرضاه كفريضة وقت يؤديها لا برنامج نهضة يبتغيها , والأمة لا تلوم احدا على ما ارتضاه كل لنفسه, ولكن بعدها لن يطالب أحد من اهل العلم إلا من خلال المركز الذي وضع نفسه فيه وبيّن للأمة حدوده وقدره , وستعرف الأمة بعد ذلك من هم قادتها لنهضتها ومن هم الذين يعملون في بعض زواياها وتكاياها

كتبها الشيخ نور الدين قرة علي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين