نحو منهج في دراسة قصص القرآن الكريم

القصة أسلوب من أساليب القرآن الكريم التي كان لها أثرها في تحقيق أهدافه العقدية والتربوية، وهي –أيضاً- فن أدبي أصيل عرفته الأمم عبر عصورها المختلفة، وأسهمت تلك الأمم على اختلاف مشاربها ومنطلقاتها في تشكيلها. والعرب أمة من تلك الأمم التي عرفت القصة قبل الإسلام وبعده؛ ويؤكد هذا أن القصة كانت أسلوباً من أساليب القرآن الكريم، بل إن ثلث القرآن الكريم قصص، وعندما نزل القرآن الكريم على نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يستنكر العرب اشتمال القرآن الكريم على تلك القصص.

وبداية لا بد من الإقرار أن قصص القرآن الكريم نسيج مختلف في بنائها وموضوعاتها وأساليبها، وخصوصيتها متسقة مع خصوصية القرآن الكريم، ذلك الكتاب المعجز المقدس.

وعندما نتجه إلى دراسة قصص القرآن الكريم نقر بداية أنها أحسن القصص، في موضوعاتها وبنائها الفني، وهذا الحكم من الله تعالى، وهو أحكم الحاكمين، حيث قال جـل جلاله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}(1). فقصص القرآن الكريم هي أحسن القصص كما وصفها الله تعالى.

والدارس لقصص القرآن الكريم سيجد فيها ذلك البيان المعجز، والبناء المحكم، فمن حيث الأحداث يجد اشتمال تلك القصص على الأحداث المتنوعة المشوقة، ومن حيث الشخصيات نجد شخصيات الأنبياء (عليهم السلام)، والصالحين، والطغاة، والجن، والإنس، وغيرها، ومن حيث الزمان والمكان نجد الإعجاز واضحاً في الاقتصار على الجوانب التي تخدم الأهداف العقدية والتربوية.

أما أساليب العرض فاتَّسمت بالتنوُّع، منها: توظيف الرؤيا في تقديم الأحداث، والمناجاة، وتنوُّع أساليب السرد والعرض، وبراعة الحوار، وعنصر المفاجأة، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره في هذا المقام.

والسؤال هنا: لماذا ندرس قصص القرآن الكريم؟ وهل نخضع دراستنا للمعايير الفنية والمضمونية التي أقرها الأدباء والنقاد؟

وبداية أشير إلى أن دراسة قصص القرآن الكريم تهدف، فيما تهدف، إلى تقديم القصص القرآني بوصفه الأنموذج الفريد المعجز للقصة، فهي معجزة بأساليبها وبنائها وطرق عرضها، وبأساليب التشويق التي اعتمدتها، وبمضامينها، وبتحقيق أهدافها العقدية والتربوية.

فدراسة قصص القرآن الكريم -كما ذكرت- بهدف الاستفادة من ذلك الإعجاز؛ لتقديم قصة عربية تستمد أصولها الفنية والمضمونية من إعجاز تلك القصص. وعلى سبيل المثال أشير هنا إلى قصة يوسف (عليه السلام)، وقصص سورة الكهف، فالقراءة المتأنية لتلك القصص تمنح المتلقِّي المتعة والفائدة، وتفيد القاص في تنمية مهاراته في كتابة القصة، وتعمق فهمه للكون والحياة والإنسان.

أما من حيث إخضاعُ دراسة قصص القرآن إلى المعايير الفنيَّة والمضمونيَّة التي قررها النقاد والأدباء، فأقول: هذا الأمر غير مقبول، فقصص القرآن الكريم –كما أكدت في بداية حديثي- نسيج مختلف في بنائها وأساليبها ومضامينها وأهدافها؛ لذا لا بد من مراعاة تلك الخصوصية.

والجدير ذكره هنا أن دراسة بلاغة القرآن -أيضاً- لها خصوصيتها، فعندما نتَّجه إلى دراسة بلاغة القرآن الكريم نراعي قداسته، فلا نخضها إلى مقاييس المناهج النقدية الحديثة ومنطلقاتها، ووضع الأستاذ الدكتور يوسف العليوي أسساً محددة لدراسة بلاغة القرآن الكريم، هي: خصوصية النظم القرآني وربانيته، وإحكام النظم القرآني وتمامه، وقصدية النظم القرآني، واعتبار السياق، واعتبار القراءات القرآنية.(1)

وهذه الأسس وغيرها يستعان بها في دراسة قصص القرآن الكريم، وفي الوقت ذاته، تمثل لبنة مهمة في سبيل إيجاد مناهج دراسة لبلاغة القرآن الكريم.

وسأحاول هنا اقتراح إجراءات منهجية لدراسة قصص القرآن الكريم، منطلقاً مما وضعه دارسو البلاغة القرآنية، ومضيفاً ما توقفت عليه في أثناء دراستي قصص القرآن الكريم. وهذه المحاولة تسعى إلى تقديم رؤية تسعى إلى الإسهام في تشكيل ملامح المنهج الذي نسعى إلى الوصول إليه، منها:

1- المنطلق الأهم في دراسة قصص القرآن يتمثل في التعامل معها بوصفها أحسن القصص، وأنها الأنموذج الفريد المعجز للقصة.

2- مراعاة خصوصية قصص القرآن الكريم من حيث المقاصد العقدية والتربوية، فقصص القرآن الكريم، كما هو راسخ، لها أهداف محددة، تسعى إلى تحقيقها، وليس هدفها الأسمى والأهم تزجية الوقت، وتقديم المتعة للمتلقي. مع التأكيد أنها حققت بإعجاز هذا الهدف، فقصة يوسف (عليه السلام)، على سبيل المثال، تعمل على تسلية المحزون. وهذا متحقق -أعني المتعة-في قصص القرآن الكريم كلها.

3- وتبعاً لما سبق؛ فإن قصص القرآن الكريم تقتصر على إبراز العناصر التي تسهم في تحقيق تلك المقاصد، فعندما يتجه الدارس إلى دراسة عناصر القصة من: شخصية، وحدث، ومكان، وزمان، وغيرها، لا يحاكم قصص القرآن إلى القواعد التي أقرها النقاد، فقصة أصحاب الكهف لم تذكر أسماءهم، ولم تهتم بتحديد عددهم، ولم تذكر المكان الذي جاؤوا منه، ولا مصيرهم بعد ذلك، بل اقتصرت على ذكر الجوانب التي تحقق أهدافها. وهكذا مع بقية العناصر، فعندما تطلّب الأمر وصف الكهف الذي لجؤوا إليه، اقتصر الأمر على ذكر الأسباب التي هيأها الله تعالى لهم من حيث دخول الشمس والهواء، والله تعالى قادر على أن يحفظهم دون تلك الأسباب، وهنا دعوة إلى اتخاذ الأسباب.

ومن هنا تظهر سمة الإيجاز في قصص القرآن الكريم عندما يستدعي المقام ذلك، وهي سمة من سمات بلاغة القرآن الكريم.

4- النقد الحق هو ذلك النقد الذي ينطلق من النصوص التي يتعامل معها في مكانها وزمانها، وهذا القاعدة تعني أننا عندما نتجه إلى دراسة قصص القرآن الكريم علينا أن ننطلق من خصوصية القرآن الكريم، بوصفه نصاً معجزاً مقدساً، لا يخضع، بأي حال من الأحوال، إلى المقاييس التي أقرها النقاد في بيئة مختلفة، وزمان مختلف. ويمكن القول بإيجاز: لا نخضها لمقاييس القصة التي أبدعها البشر.

5- التأكيد أن قصص القرآن الكريم قصص واقعية، وليس للخيال حضور فيها.

6- مراعاة خصوصية القرآن الكريم في أثناء دراسة قصصه، ومن ذلك تجنب استعمال المصطلحات النقدية التي تتعارض مع قدسية القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال، الراوي غير العليم.

وأشير هنا إلى مصطلح آخر من مصطلحات النقد القصصي، وهو التدخل في السرد، وهذا يعد عيباً في القصة التي مصدرها البشر، فعندما يتدخل القاص في سرد الأحداث بقطع تسلسلها، ويخاطب المتلقي مباشرة؛ ليوصل رسالته، يرى النقاد أن هذا التدخل من عوامل ضعف القصة، ويدخلها في مجال القصة الوعظية التعليمية.

أما في قصص القرآن الكريم، فالأمر يحتاج إلى وقفة، فكما أكدت في بداية هذه المقالة، عند حديثي عن خصوصية قصص القرآن الكريم، فتحقيق الأهداف العقدية والتربوية هو الأهم في تلك القصص، فلا يقبل أن نلج من هذا الباب عندما نجد التعقيب ظاهراً في تلك القصص المعجزة؛ لأنها نسيج مختلف عن القصص التي مصدرها البشر.

7- عند الاستعانة بكتب التفسير في دراسة قصص القرآن الكريم؛ للكشف عن المقاصد والمقامات، علينا التثبت من صحة ما ننقل من روايات.

وبعد، فهذه بعض الأسس التي ينبغي الالتفات إليها عند اتجاهنا إلى دراسة قصص القرآن الكريم. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة لإيجاد مناهج خاصة لدراسة بلاغة القرآن الكريم وقصصه، تراعي خصوصية القرآن الكريم وقداسته.

مجلة الأدب الإسلامي، العدد 112

الهوامش:

(1) سورة يوسف، الآية:3.

(2) ينظر: الأسس المنهجية لدراسة البلاغة القرآنية، ص8-73، دار كنوز إشبيليا، الرياض، 1439هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين