(باختصار من مقال لفضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى)
أيها الأخ المسلم:
سلام الله عليك ورحمته وبركاته وبعد:
فإنَّك قد وهبت نفسك المؤمنة لهذه الدعوة المباركة، ونذرت قوَّتك وشبابك لتأييدها وإدخالها كل بيت يحب الخير والسعادة، ويهوى الحق والنَّور. وإنَّ من واجب هذه الدعوة الكريمة في عنقك أن تجود في سبيلها بكل غال لديك من مال وجاه، وشباب ونشاط، وعلم ووقت،
واعلم يا أخي أنَّ الحق في هذه الأيام، هو الحق في الأيام الغابرة الزاهرة لكن أنصاره اليوم ضعفاء في الدعوة إليه والدفاع عنه، بُخَلاء في البذل في سبيل نصرته وتأييده، متواكلون في خدمته والقيام بوجائبه؛ فتأخَّر الناس عن التمثُّل بالإسلام كما أمر الإسلام ـ لم يكن لضياع الحق من بينهم، واشتباه الأمر عليهم، فالحق أَبْلج والباطل لَجْلَج، والنور هو النور أينما كان.
وحَذار تظن أيها المسلم أنَّ دعوتك المباركة - لأنها دعوة رب السموات والأرض- تنجح من غير بذل وتضحية، وعذاب وابتلاء: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ] (البقرة:142)
وحَذَار تظن أنَّ دعوتك تقتصر على التوجُّه إلى القبلة فقط، وإنك إذا صمت وصليت، وحججت وزكيت، برئت ذمَّتُك، وانتهت مسؤوليتك، وخلصت من كل حق عليك، فإنَّ دعوتك عقيدة وإيمان، وتقوى وإحسان، وصلاة وصوم، وحَرْب وسِلْم، وخير وبر، وصبر على ضرٍّ، وصدق ووفاء، وحب وإخاء، وبذل وسخاء،.
اسمع قول الله تعالى: [لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلَائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] {البقرة:177}.
هذه هي مبادئ دعوتك وهذا منهاجها، وأنت اليوم على مفترق الطرق، وفي معترك المذاهب، ولا شك أنَّك ناجح ظافر، إذا قُمت بواجب دعوتك حقاً، من قَلب مُخْلص، وإيمان معزز بعمل: [وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] {الصَّفات:173}. [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلَادِ] {آل عمران:196}.
ودعوتك اليوم هي دعوة آبائك المؤمنين من قبل، فما قامت به الدعوة في زمنهم، هو الذي تقوم به الدعوة في زمنك هذا. وإليك طرفاً من تاريخ الدعوة في صدر الإسلام الحنيف، تدرك منه كيف نجحت هذه الدعوة، وكيف كانت سيرة آبائنا فيها
بقي الرسول صلى الله عليه وسلَّم ثلاثة عشر عاماً في مكة يدعو الناس إلى الإسلام، فلم يكن منهم إلا المكابرة والعناد، ولم يُسْلِم منهم إلا نَفَرٌ قليل، فكان من الخير للدعوة أن يرتاد لها الرسول صلى الله عليه وسلم مكانا آخر، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وخرج معه الأفراد الذين أسلموا في مكة، تاركين ديارهم وأموالهم إجابة لخير الدعوة، فماذا كان لهم من إخوانهم المسلمين في المدينة؟
كان ما رواه البخاري في صحيحه قال: "قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ـ وكان من المُهَاجرين، لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد بن الربيع: إنِّي أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حَلَّت تزوجتَها، فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، بارك الله لك في أهلك ومالك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع...".
فهذا نموذج من حال رجال الدعوة فيما بينهم: يشاطر أحدهم أخاه ماله وأرضه وينزل له عن إحدى زوجتيه إذا كان له زوجتان.
أما حالهم بالنظر إلى خدمة الدعوة والبذل في سبيلها فقد كان ذوو المال، منهم من يجود بماله كلِّه، ومنهم من يجود بنصفه، والمعدم الذي لا يملك درهماً كان يؤجر نفسه فيحمل على ظهره بالأُجرة، ويسحب الماء ثم يجود بأُجرته للدعوة طيِّبةً بها نفسُه، وهو يشعر بالتقصير عن وفاء واجب الدعوة
وفي تجهيز غزوة تبوك حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المُوسِرين على تجهيز المُعْسرين، فأنفقَ عُثمانُ عشرة آلاف دينار، وأعطى ثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها، وخمسين فرساً، وجاء أبو بكر بكل ماله، وهو أربعة آلاف درهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فقال: أبقيت لهم اللهَ ورسولَه، وجاء عمر بنصف ماله وجاء العباس وطلحة بمال كثير، وأرسلت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر، فقال يا رسول الله هذا صاع تمر، بت ليلتي أجر الماء بالحرير (الحبل) ـ حتى نلت صاعين، فتركت صاعاً لعيالي، وأتيتك بالآخر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا، أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة ويتصدَّق بها.
هذا طرف من تاريخ الدعوة، تدرك به ما كان عليه أنصارها الأولون.
وإنَّك إذ تقرأ عنهم هذه الأخبار اللامعة المشرقة تمتلئ نفسك إعجاباً ودهشاً، وتحيط بك هالة من نور تسمو بروحك عن هذا المجتمع الصاخب المائج بالأدران والأوباء، فهذا ما تشعر به وأنت تقرأ سيرة أولئك المؤمنين فكيف بك لو كنت فيهم ورأيت منهم هذه المآثر الكريمة رأي العين؟!
أعتقد ، وتعتقد معي يا أخي أنَّ هذه المآثر الطيبة أفضل دعوة إلى اعتناق الحق والاستنارة بنور الإسلام.
وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأُنَحِيَنَّ هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فغفر الله له وأدخل الجنة.
فهذا ملحظهم في عملهم، وهذه رابطتهم في تحركهم، لا يتحركون إلا للإسلام ولا يعملون إلا في مصلحته، ولقد كانوا يقدمون مصلحة الإسلام على مصالح أنفسهم، ويجودون بأرواحهم وأموالهم للإسلام وفي نصرته وتأييده، وماتوا وهم يرون أنَّ للإسلام في أعناقهم حقوقاً لم يؤدوها بعد.
وبهذا وأمثاله أخذت الدعوة تسير إلى القلوب المُقْفَلة فتفتحها، وإلى العقول المُغْلقة فتنيرها، وتبوَّأت الدعوة أفئدة الناس، فملأتها نوراً وإيماناً وحكمةً، واستبدلت بطغيان الجاهلية عدل الإسلام وسماحته، وبظلمة الشرك نور التوحيد ووضاءته،.
وحَذارِ يا أخي أن تستصغرَ نفسَك، فتظن أنَّك خالٍ من المسؤولية للدعوة، فإنَّك واهم في ذلك قطعاً؛ لأنَّ الدين الحنيف يجعل كل مسلم مسؤولاً عن الإسلام بقدر ما مكَّنه الله من مَواهب، وما أتاح له من عمل.
والمسؤولية في الإسلام تبتدئ بانتهاء الطفولة، وتنتهي بانتهاء الحياة، والنجاح في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من مسؤوليته: [مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ] {المائدة:99}. واليأس والقنوط ليس من صفة الداعية، فهذا سيدنا نوح عليه السلام لَبِثَ في قومه ألفَ سنة إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل ـ ولم يضعف عن أداء رسالته وإبلاغها إلى الناس.
إذا أيقنت هذا فاعلم أنَّ الطالب في معهده، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والقائد في معسكره، والجندي في رَهْطه، والعالِم في وعظه، والمُزارع في حَقْله، والأمير في إمارته، والمرأة في بيتها، كلهم مطوقون بحقوق الإسلام في أعناقهم، وإذا كانت الحكومات تستدعي أبناءها ، لتنظمهم في جيشها بحق انتسابهم إلى مسقط رؤوسهم، فما حق الإسلام في أعناق أبنائه، ونسبتهم إليه نسبة إلى الله ورسوله، نسبة إلى الهدى والنُّور نسبة إلى الإيمان. .
ولا تسأم إذا أقيمت العواثر في طريق دعوتك، وحيكت الدسائس حولها، وأُشيع عنها ما ليس منها واضطُهد أصحابها، واستُشهد شبابُها، فإنَّ الفلاح لا يأتي إلا بصبر طويل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران:200).
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول