تردد سمير في النزول إلى الحديقة، فقد كان الجو ممطراً، ولكن الشمس الربيعية التي بدأت تظهر أشعتها الصفراء خلف بعض السحب، أغرته بالدخول. فراح يتأمل الأزهار التي كانت قبل أيام براعم صغيرة لم تتفتح.
فإذا هي اليوم أزهار صفراء وحمراء اللون تسر العين، وتبهج القلب.. ومضى يتجول في أنحاء الحديقة يتمتع بالنظر إلى جمالها، ويستنشق رائحة عطورها... حتى أدركه التعب، فجلس على مقعد خشبي يستريح.. ويحدق النظر فيما حوله.
كانت هناك نحلة تطير من غصن إلى غصن، وخلفها بعض رفيقاتها يقفن على الأزهار المتفتحة، ويأخذن من رحيقها.
وقفت إحداهن على غصن مزهر، في سرور، ونادت: تعالي، أيتها الرفيقات العزيزات.. هذه زهرة طيبة الطعم والرائحة.
سمع سمير كلامها، فصاح غاضباً: أيتها النحلة ! كيف تدخلين إلى حديقتنا، وأنت لم تستأذني ؟ وكيف تطلبين من رفيقاتك أن يأخذن من شيء ليس ملكاً لهن ؟!! هيا اخرجن جميعاً، وإلا أخرجتكن بالقوة...
اقتربت النحلة منه وقالت: هل أنت متأكد أن هذه الحديقة لك ؟
قال سمير: نعم.. إنها لأبي، ولا يدخلها أحد إلا بإذنه..
طارت النحلة إلى غصن آخر، وبسطت جناحيها، ثم قالت: أيها الفتى ! نحن لا نضايقك على كل حال ! بل إننا نأخذ شيئاً قليلاً، لا ينقص الثمار.
قال سمير: ولكنني لا أسمح بذلك. هيا اخرجن جميعاً وإلا ضربتكن بالعصا..
ابتسمت النحلة، وقالت: إذا كنت قوياً فهناك من هو أقوى منك ! ولو آذيتنا لعذبك..
لم يلتفت سمير لكلامها، وأمسك بالعصا، وهوى بها على الغصن فتساقطت أزهاره، وارتجفت الشجرة غاضبة من فعله. ولم يستطع أن يصيب النحلة..
ولما أراد أن يرفع العصا مرة أخرى، فاجأته النحلة من خلفه ولدغته في جبينه، فصاح متألماً، ورمى بالعصا، ثم جعل يركض، وهو يبكي، ويقول: يا لك من ظالمة !! كيف تعتدين عليّ ؟!
قالت النحلة: ألم أقل لك، دعنا وشأننا ؟!
قال سمير: إذا كنت لا أستطيع إخراجكن، فسوف أشكو أمركن إلى أبي ليخرجكن بالقوة..
قالت النحلة: ولكنك أنت الذي بدأت بالعداوة، وأردت إيذاءنا !
فال سمير: لأنكن تأكلن من حديقتنا ؟! وهي ملكنا لنا وحدنا.
قالت النحلة: أيها الفتى، إنها ليست ملككم، فهل أنت الذي أخرجت نباتها من الأرض ؟.
قال سمير: لا.. ولكننا نحن الذين زرعناها.
قالت النحلة: والله تعالى هو الذي أنبتها بقدرته، وهو الذي أرسلنا إليها، لنأكل من زهرها.
قال سمير: (متعجباً) ألله أرسلكن ؟!! لم يقل لي أحد ذلك.
وهذا الكلام أسمعه للمرة الأولى.
قالت النحلة: لأنك لم تقرأ القرآن كله.
قال سمير: وقد ازداد عجبه مما سمع من كلام النحلة هل قال الله لكن أن تأتين إلى حديقتنا بالذات ؟.
ابتسمت النحلة وقالت: لقد أذن الله لنا أن نأتي إلى حديقتكم وإلى غيرها.
عند ذلك تذكر سمير أن في القرآن سورة تسمى سورة النحل، فقال للنحلة: انتظري قليلا.. سأدخل إلى المنزل وأعود سريعاً ثم اتجه إلى غرفته، وفتح المصحف، ليقرأ في سورة النحل، فوقف عند قوله تعالى:
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً، ومن الشجر، ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ".
ولما أتم قراءة الآية، قال: صدقت النحلة...
فرجع مسرعاً إلى الحديقة، ليجد النحلة لا تزال في مكانها..
فقال لها: وهل يسمح لكنّ جيراننا بدخول حديقتهم ؟.
قالت النحلة: نعم.. إنهم يفرحون أيضاً بقدومنا، لأننا لا نضر أحداً..
قال سمير: وكيف يفرحون بكنّ، وأنتن لا تتركن زهرة جميلة، أو وردة متفتحة إلا وقفتن عليها، وأخذتن في مصها ؟.
قالت النحلة: لأننا سنعطيهم شراباً طيباً نجمعه من كل الزهرات.
قال سمير: هل تعطينني مثلهم ؟.
قالت النحلة: نحن نعطي لك ولغيرك، وإذا أحسنت ضيافتنا فالله تعالى يرزقك كما رزق جيرانكم.
قال سمير: إنني أقبل ضيافتكن في غرفتي..
اقتربت النحلة منه، وقالت وهي تبتسم: نحن لا نسكن في غرفتك.
قال سمير: ولماذا ؟.
قالت النحلة: لأننا نسكن فوق أغصان الشجر، أو في رؤوس الجبال، أو في الخلية..
تذكر سمير ما قرأه في سورة النحل قبل قليل، ولكنه سألها: وما الخلية هذه التي تريدين ؟.
قالت النحلة: إنها صندوق من طين، أو من خشب نأوي إليه ونضع العسل داخل أقراص الشمع التي نصنعها.
قال سمير: إنني سأحضر لكنّ مثل هذا الصندوق، على ألا تلدغني بعد ذلك.
قالت النحلة: حسناً، إنني ذاهبة أستدعي رفيقاتي ليأتين معي..
قال سمير: عليك أن توصيهن ألا يلدغن أحداً..
قالت النحلة: أعدك بذلك، على ألا يؤذينا أحد.
خرج سمير من الحديقة، وقد حان وقت الغروب، وهو يقول:
أيتها النحلة.. أصبحنا أصدقاء، وقد سمحت لك ولرفيقاتك بدخول حديقتنا التي نملكها.
قالت النحلة: بل الملك لله خالق كل شيء وموجده.. ونحن وأنتم نتمتع بخيراتها..!
جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول