نحن والكورونا

(بعض من يفتي هنا أحق بالسجن من السراق)

لفتت انتباهي كثيرا كلمة الإمام ربيعة بن عبد الرحمن، شيخ الإمام مالك، المشهور بربيعة الرأي رحمهما الله تعالى.

فعلا إن كثيرا، وليس بعض، من يفتي في أيامنا أحق بالسجن، وبخاصة في موضوع هذا الوباء القاتل الذي لم يترك بيت مدر ولا وبر إلا دخله..

فالبعض يستهتر فيه وفي آثاره المميتة، وبالتالي هو أحق بعقوبة القتل شبه العمد. وبخاصة أن الذين يعترضون على التدابير الوقائية المتخذة ينطلقون بزعمهم من مفاهيم يصفونها شرعية، وهي في الحقيقة مفاهيم مجتزأة غير مستوفية للشروط العلمية.

وبعيدا عن الردود والردود المضادة أحب أن أؤكد على المسلمات الشرعية الآتية:

وجوب التداوي:

في الحديث الصحيح، عن أسامةَ بنِ شَريكٍ رضي الله عنه، قال: أتيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - وأصحابُه كأنما على رؤوسِهُم الطيرُ، فَسَلَّمتُ ثُمَّ قَعَدْتُ، فجاء الأعرابُ مِن هاهنا وهاهنا، فقالوا: يا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم -، أنتداوى؟ فقال: (تَدَاوَوْا، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يَضَعْ دَاءً إلا وضع له دَوَاءً غيرَ داءٍ واحدٍ الهرَمُ). سنن أبي داود، والحديث له روايات متعددة في صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما.

ففهمنا من الحديث أنه يتوجب علينا التداوي من الأسقام.

والتداوي يسلتزم التعرف على الأمراض وأدويتها، وطرق العلاج منها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والتداوي لا يتحقق إلا بالتعرف على ماهية الأمراض وخصائص الأدوية، وهذا مجال الكلمة فيه للطب والأطباء، والشرع يبني حكمه على تصويرهم للقضية، فعندما يقول الطب إن أهم علاج اليوم للوباء هو المسافة الآمنة، وعدم التجمعات الكبيرة، ووضع الكمامة، والتعقيم الدائم لليدين، فإن الشرع حينها سيحكم بوجوب اتباع هذه الأساليب العلاجية لتحقيق التداوي الذي أمرنا به شرعا.

ترك الجمعة والجماعة:

وبالتالي فإن هذا الوباء اليوم عذر شرعي موجب لترك الجماعة والجمعة، لا مجرد مبيح، بسبب ما يُخشى من توسع انتشاره، ونحن نرى كيف يتخطف الناس في طرقاتهم ومدنهم، نسأل الله تعالى السلامة للجميع منه. فنحن نلتزم بيوتنا بناءً على التوجيهات النبوية بوجوب التداوي.

وقد ذكر العلماء أسبابا أقل من هذا الوباء بكثير يرخَّصُ فيها للمرء بترك الجمعة، اعتمادا على حديث ابنِ عُمَر، رضي الله عنهما، انه أَذَّنَ بالصلاةِ في ليلةٍ ذاتِ بَرْدٍ وريحٍ بضَجْنانَ (موضع)، ثم قالَ: ألاَ صلُّوا في الرِّحالِ، ثم قالَ: إِنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأمرُ المؤَذِّنَ يؤَذنُ إذا كانت ليلةٌ ذاتَ برْدٍ ومطرٍ، ثم يقولُ على إثرهِ: (ألا صلُّوا في الرحالِ). (البخاري). والرحال البيوت.

وقد بين الإمام ابن المُلَقِّن الأعذارَ المرَخِّصَةَ بترك الجمعة في شرحه على البخاري (التوضيح لشرح الجامع الصحيح) باب: الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر، (ج7 / ص 461 - 462)، فقال: «وقد رخص - أي الإمام مالك - في تركها - أي صلاة الجمعة - بأعذار أخر غير المطر، روى ابن القاسم عن مالك أنه أجاز أن يتخلف عنها بجنازة أخ من إخوانه؛ لينظر في أمره، قال ابن حبيب عن مالك: وكذا إن كان له مريض يخشى عليه الموت».

فكيف إن كان يخشى على نفسه الموت؟

وقال رحمه الله تعالى: «وقد رأى ابن عمر ابنا لسعيد بن زيد – زوج خالته - ذكر له شكواه فأتاه إلى العقيق وترك الجمعة، وهو مذهب عطاء والأوزاعي، وقاله الشافعي في الولد أو الوالد إذا خاف فوات نفسه، وقال عطاء: إذا استُصرخ على أبيك يوم الجمعة والإمام يخطب فقم إليه واترك الجمعة، وقال الحسن: يرخص في الجمعة للخائف».

انتهى كلام الإمام سراج الدين ابن المُلَقِّن المتوفى سنة (804هـ) رحمه الله تعالى.

ونحن لو نظرنا في الأعذار وجدناها دون ما نحن فيه بكثير، فيكون الحكم في أيامنا أوجب، وتكون الرخصة هنا عزيمة.

وفي كتاب (البحر الرائق) لابن نُجَيم المصري (2 / 303) فصل في العوارض المبيحة للفطر في رمضان، وذكر أنها ثمانية، ثم ذكر منها: المرض.

ونقل قول صاحب كنز الدقائق (لمن خاف زيادة المرض الفطر)، لقوله تعالى: ﴿فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾ [البقرة: 184].

ثم قال: «فإنه أباح الفطر لكل مريض، لكن القطع بأن شرعية الفطر فيه إنما هو لدفع الحرج، وتحقق الحرج منوط بزيادة المرض أو إبطاء البرء، أو إفساد عضو».

فبين أن شرعية الفطر لدفع الحرج، وأن الحرج يحصل بأمور، منها: زيادة المرض أو تأخر الشفاء، أو فساد العضو المصاب.

ولكن كيف نضبط هذه الأمور؟ وهل يترك لكل أحد أمر تقديرها؟ يقول ابن نجيم:

«ثم معرفة ذلك باجتهاد المريض. والاجتهاد غير مجرد الوهم، بل هو غلبة الظن عن أمارة، أو تجربة، أو بإخبار طبيب».

ثم قال: «فلو برأ من المرض، لكن الضعف باق وخاف أن يمرض، سئل عنه القاضي الإمام – أبي يوسف -، فقال: الخوف ليس بشيء. كذا في فتح القدير، وفي التبيين: والصحيح الذي يخشى أن يمرض بالصوم فهو كالمريض. ومراده بالخشية غلبة الظن».

ونحن لو أنعمنا النظر في هذا النص لاحت لنا أحكام ما نحن بصدده من قضية ضرورة منع التجمعات الكبرى بسبب وباء الكورونا والخوف من انتشاره.

وأكبر هذه التجمعات اليوم هي (صلاة الجمعة والجماعات)، فالعقل والمنطق الشرعي يقول ينبغي منع ذلك اليوم سدا لذريعة انتشار المرض، فإذا كان الصوم الذي هو فرض عين يعذر المرء بتركه في حالة الخوف من عودة المرض، فما بالكم بما هو محقق اليوم من أن أهم سبب لانتشار هذا الوباء هو التجمعات البشرية؟..

ولو أنعمنا النظر ثانية وجدنا أن العوارض التي أباحت ترك الفريضة في الصوم، متحققة اليوم في ترك الجماعات، وهي: دفع الحرج المتولد عن خوف المرض، وقد أضيف إليه إخبار الطبيب عن تحقق المرض في حالات الاجتماع البشري.

فهذا كله دافع لمنع التجمعات الكبيرة.

هل هناك (عدوى) أم لا؟

تُعَرَّفُ (العدوى) بأنها: انتقال المرض إلى الغير، وهذا أمر يؤكده الطب بشكل شبه قطعي، وينفيه بعض من قرأ الأحاديث النبوية بشكل قطعي اعتمادا على تأويل لهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا عدوى).

والذي يريد استنطاق الشرع في قضية لا يمكنه بناء الحكم على رواية واحدة ترد في حقها، وإنما عليه تتبع سائر ما ورد فيها من روايات ليخرج بعد ذلك بحكم كلي.

وهذا الحديث، (لا عدوى)، صحيح ثابت، أخرجه الإمام البخاري، وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ هَامَةَ). فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ، تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا البَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ).

وفي رواية أخرى عند البخاري: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ). فقوله عليه الصلاة والسلام: (وفر من المجذوم) يبين أن المقصود ليس نفي نفس العدوى، وإنما نفي الاعتقاد بأنها علة المرض.

والعدوى انتقال المرض، والصَّفَر حكة جلدية مثل الجرب، والهامة أسطورة جاهلية بتحول عظام المقتول ظلما إلى طائر يبقى يصيح فوق القبر حتى يؤخذ بالثأر.

فالحديث بمنطوقه نفى هذه الثلاثة. ولكن تتمة الحديث تجعلنا ننظر في المراد منه.

فالنبي عليه الصلاة والسلام طرح إشكالية صحيحة لا لبس فيها، وهي: لو أن العدوى بحدِّ ذاتها مؤثرة، فمن أين أصابت العدوى الذي مرِضَ أولا؟

إذن المرض ليس بمجرد العدوى، وإنما له أسباب، وتتفاوت جسوم الناس في التجاوب مع هذا المرض، والذي نسميه اليوم فيروسا، فمن الأجسام من تتأثر به، ومنها ما لا يتأثر به، والدليل عليه، في حالة الكورونا اليوم مثلا، أنه ليس جميع أهل البلد الذي حل فيها يصيبهم، وإن أصاب البعض فإن تأثيره يتفاوت بين جسم وجسم، هذا كله شاهدناه بعد حصول المرض، ولأننا لا نملك معرفة مسبقة بهذه الأجسام وقابليتها من عدمها كان لا بد من الاحتياط بعدم مقاربة من حمل المرض أولا، وهذا ما يقوم به الطب من إرشادات اليوم.

ضرورة الأخذ بالأسباب

وهو ما أرشدنا إليه نبينا صلى الله عليه وسلم عندما قال في الحديث السابق: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد)، وفي حديث آخر أخرجه أيضا البخاري وغيره، وأيضا عن أبي هريرة، رضي الله عنه: (لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ). أي لا يُدخِلُ صاحبُ الإبل المريضة إبِلَهُ على إبلٍ صحيحة، والعكس، وهذا طبعا في الأمراض التي تحمل خاصية الانتقال من جسم إلى آخر، وهي الفيروسات.

فهذا كله يحضنا على ضرورة الأخذ بأسباب التداوي وتجنب مظان المرض، حتى إن العلماء اعتبروا أن ترك الأخذ بأسباب التداوي قادح بصفاء التوحيد، ففي كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد: 4/ 14) يقول الإمام ابن القيم، في فصل: الطب النبوي، فصل: الحث على التداوي وربط الأسباب بالمسببات:

«وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالتَّدَاوِي وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ دَاءِ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ، وَالْحَرِّ، وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا، بَلْ لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ مُقْتَضَيَاتٍ لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، وَأَنَّ تَعْطِيلَهَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التَّوَكُّلِ، كَمَا يَقْدَحُ فِي الْأَمْرِ وَالْحِكْمَةِ وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ مُعَطِّلُهَا أَنَّ تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ تَرْكَهَا عَجْزًا يُنَافِي التَّوَكُّلَ الَّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا الِاعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَإِلَّا كَانَ مُعَطِّلًا لِلْحِكْمَةِ وَالشَّرْعِ فَلَا يَجْعَلُ الْعَبْدُ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا وَلَا تَوَكُّلَهُ عَجْزًا».

فهذا كلام أهل العلم والفهم والعقل، نعم العقل الذي جعله الله تعالى مناط التكليف، فميزنا الله تعالى به على سائر المخلوقات، وكرمنا بذلك، ويريد منا البعض تعطيله تبعا لأهواء يظنونها دينا..

لذلك وجدنا بعض العلماء يحمل (العدوى) على (الاعتداء)، بمعنى لا يكون المريض سببا بنقل المرض إلى غيره عن طريق المخالطة، وعلى هذا المعنى حمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ)، [أخرجه الإمام أحمد في مسنده والشيخان].

وهو أحد الأحكام الشرعية التي وافقها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اجتهاده، وذلك يوم قدم الشام، فلما كان في منطقة تسمى السَّرغ لقيه قادة الجند وفيهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وأخبروه أن الطاعون ضرب الشام، وهو الذي عُرِف بطاعون عمواس، فاستشار عمر القوم، وأخذ قرارا بعدم دخول الشام والرجوع إلى المدينة، ولم يكن على معرفة بالحديث، حتى جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه وأخبره بالحديث، فحمِد الله تعالى على موافقته الشرع.

فهذا، والله أعلم، مَحْمِلُ قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا عدوى) أي: لا عدوى مؤثرة بذاتها، وإنما هو كما سبق بيانه. والله أعلم.

شبهة ودفعها

البعض يحتجون لنفي العدوى بحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مَجْذُومٍ، فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: (كُلْ؛ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ). أخرجه أبو داود والترمذي.

وقد حكم العلماء عليه بالضعف بسبب أحد رواته وهو: مفضل بن فضالة، قال فيه ابن عدي الجرجاني في ترجمته من كتابه (الكامل في ضعفاء الرجال): لم أر له أنكر من هذا الحديث.

ففهمنا أن الضعف في المتن لا في اٌسناد. وبيان ذلك أن المعنى الذي يحويه هذا الحديث يعارضه ما جاء في احاديث أخر أصح منه، منها حديث أبي هريرة السابق الذي فيه: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد).

كما يعارضه الحديث الصحيح عند مسلم: عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ).

وعليه فمن أراد الاستشهاد بحديث في قضية ما فعليه ابتداء جمع كل الروايات الواردة في الموضوع، ليخرج من مجموعها بحكم كلي. مع مراعاة القاعدة المطردة في الاستشهاد بالأدلة القائلة: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين