نحن والرأي الآخر

 

 

يقع كثير من الاسلاميين في دائرة الاتهام  من قبل اسلاميين وعلمانيين وآخرين في أنهم يغالون في التعصب للرأي  أو الحزب أو الجماعة ، ولا يتقبلون الرأي المخالف مما يجعلهم خارج دائرة ثقافة الحوار المثمر والعيش المشترك ، بل إنهم يعتبرونهم من الغلاة المتطرفين  الذين لاينفع معهم الحوار  ولا التشارك الديموقراطي  لبناء مجتمع متسامح .

 وعلى الطرف المقابل يتهم الاسلاميون كثيرا من العلمانيين بالتعصب للرأي  وعدم  الاحترام لرأي الاسلاميين المخالف ، بل يتهمونهم بأنهم أشد تعصبا وتطرفا من الاسلاميين مع أنهم يدعون  أنهم ليبراليون  وديموقراطيون  ويؤمنون بثقافة  الحوار  والاحترام للرأي الآخر .....،

 ولا أريد هنا اللجاجة  في جدال هؤلاء وأولئك بقدر ما أريد تسليط الضوء على ما أعتبره مظهرا من مظاهر  الغلو والتعصب للرأي كثيرا ما عشناه مع اسلاميين وعلمانيين من مدارس مختلفة .

 

من البداية أقول : إن التعصب لما يراه الانسان حقا لامانع منه طالما أنه مقتنع  بأدلته ولم تقم حجة مقنعة برده ، ولكن يكون هذا التعصب مذموما إذا  كان صاحبه لايحترم الرأي الاخر  وبخاصة  في مسائل  اجتهادية  في الفقه  أو السياسة  أو  أي نشاط فكري يعتريه  تعدد الفهوم والاجتهادات ،

إن  انتشار ثقافة  الحوار التي تصغي للرأي الآخر مهما كان  مخالفا يثري  الساحة الفكرية  بتنوع معرفي  إذا  أحسن الناس الاستفادة منه ، و يترقى  بالمجتمع  في مراتب العلم  والمعرفة  وينتج  ثقافة التسامح  والعيش المشترك . ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم} (46) سورة العنكبوت

 

ومن التعصب  المذموم أيضا  التعصب لرأي  مرجوح قد ظهر  ضعفه لصاحبه ومع ذلك  يظل  متمسكا برأيه  مدافعا عنه معاندا للمخالف ، أما  التمسك بالرأي  لعدم ظهور الدليل  الأقوى المعارض  فهذا لايعتبر  تعصبا  ذميما. 

إننا نلحظ اليوم  نشاطا  ظاهرا للجماعات الاسلامية  وهي تشكل مدارس   فكرية   متباينة   حسب  طبيعة المنهج الفكري  والعلمي  الذي تربى عليه الأتباع  ، وبما أننا هنا نتكلم عن  التعصب  للرأي  والتشدد  فيه   فقد  صادفنا ونصادف  نماذج من  المتشددين   الذين  يتعصبون  لآرائهم   أو  رأي شيخهم  أو  حزبهم   .... فما هو الموقف من  هذا المتشدد ؟

المتشدد الذي يقع عليه النكير ( اسلامي  ـ علماني ـ آخر ) هو  من أنكر  الرأي المخالف في مسائل  تحتمل تعدد الآراء وزعم أنه وحده على الحق  ومن  خالفه على ضلال  ، ويتهم من  يخالفه في الرأي  بالجهل  واتباع الهوى ومن يخالفه في السلوك بقلة الدين والفسوق والعصيان  ، وحين  يخاطبك  فكأنه  جعل من  نفسه نبيا معصوما ومن  كلامه وحيا  منزلا  لايأتيه الباطل من بين يديه  ولا من خلفه ، وقد يترتب على  خلافك معه   هجرانك  ومعاداتك  والطعن   فيك  في المجالس  ، والتحذير  من  آرائك . مع أن  سلف الأمة وخلفها قد أجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك  إلا  النبي  صلى الله عليه وسلم ،

قال ابن تيمية : وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا فى الأمر اتبعوا أمر الله تعالى فى قوله ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) وكانوا يتناظرون فى المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة واخوة الدين نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع (الفتاوى ج 24 ص 172 )

وقال : وأما الاختلاف فى ( الأحكام ) فأكثر من أن ينضبط ولو كان كل ما اختلف مسلمان فى شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان فى أشياء لا يقصدان الا الخير وقد قال النبى لأصحابه يوم بنى قريظة ( لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة فأدركتهم العصر فى الطريق فقال قوم لا نصلى الا فى بنى قريظة وفاتتهم العصر وقال قوم لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا فى الطريق فلم يعب واحدا من الطائفتين) ( أخرجاه فى الصحيحين من حديث ابن عمر) ( الفتاوى ج 24 ص 173)

إن هذا المتشدد المتعصب كأنه يقول  لك  من حقي ان  أتكلم  ومن واجبك أن تسمع ، ومن حقي أن أقود  ومن واجبك أن  تتبع ، رأيي  صواب لايحتمل الخطأ  ورأيك خطأ لايحتمل الصواب  ، فكيف  تتعايش مع  هكذا  فكر   وهكذا إنسان ؟

نعم  إنه إرهاب فكري  يتعارض  مع  منهج الاسلام  في الحوار  والجدال بالتي هي أحسن ، وقد أتي  المسلمون  من  هذا المنهج الفكري المتعصب  الذي أنتج  الغلاة  بدرجاتهم  الذين وصل ببعضهم الغلو في الرأي   لتكفير مسلمين  واستباحة دمائهم وأموالهم  .

وهذا ماحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين . ) رواه البيهقي .

أما سبب هذا الانغلاق الفكري  والتعصب  المقيت فهو  التربية  الدينية  أو الفكرية والسياسية  المغالية  التي  خرجت  أناسا  محدودي العلم  والثقافة  وتضاءلت فيهم  قيم  وآداب الحوار والتدرب عليه ،

 قال ابن تيمية :   ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه ، وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء ، لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الايمان به ، وبين ما قاله بعض العلماء ، ويتعسر أو يتعذر اقامة الحجة عليه ، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن ان يتكلم في العلم بكلام العلماء ، وانما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره والشاهد على غيره لا يكون حاكما ، والناقل المجرد يكون حاكيا لا مفتيا (مجموع الفتاوى  ج 26   ص 202) 

_ وقال الشاطبي في الموافقات  : إن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الإعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه  ( ج/2 ص 391 )

اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه  وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ،

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى  آله  وصحبه  أجمعين والحمد لله رب العالمين  .   

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين