نبي الرحمة (31)

غزوة بني المُصطَلِقِ أو غزوة المُرَيْسِيع

شعبان ٥هـ هذه الغزوة وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والإضطراب في المجتمع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين، وسبب الغزوة: بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث بُرَيْدَة بن الحصيب الأسلمي لتحقيق الخبر، فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه ورجع إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر. وبعد أن تأكد لديه صلى الله عليه وآله وسلم صحة الخبر ندب الصحابة وأسرع في الخروج، وكان خروجه لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي، وكان الحارث بن ضرار قد وجه عيناً ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقى المسلمون عليه القبض وقتلوه. ولما بلغ الحارث ومن معه مسير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقتله عينه، خافوا وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المُرَيسيع- اسم لماء من مياههم في ناحية قديد إلى الساحل- فتهيؤوا للقتال، وصفّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر صلى الله عليه وآله وسلم فحملوا حملة رجل واحد، فكانت النصرة. وانهزم المشركون، وقُتل من قُتل، وسُبى من سُبي من النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يُقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من الأنصار ظناً منه أنه من العدو.

وكان من جملة السبي جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتزوجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

دور المنافقين قبل الغزوة:

كان رئيس المنافقين عبد الله بن أُبَيٍّ يحنق على الإسلام وعلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. لأنه يراه هو الذي استلبه ملكه، وظهر حنقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام، وبعد أن تظاهر به. ركب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس فيه ابن أبيّ، فخَمَّرَ ابن أبيّ أنفه وقال: لا تُغَبِّرُوا علينا. ولما تلا صلى الله عليه وآله وسلم على المجلس القرآن، قال: اجلس في بيتك، ولا تَغْشنَا في مجلسنا. وكان يقوم كل جمعة حين يجلس صلى الله عليه وآله وسلم للخطبة، فيقول: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه، وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، فيقوم صلى الله عليه وآله وسلم ويخطب، وكان من وقاحته، قام في يوم الجمعة التي بعد أحد ليقول ما كان يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بَجْراً- أمراً منكراً- أن قمت أشدّد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي. وتآمر مع بني النضير وقال لهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم. وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} إلى قوله:{يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:١٢-٢٠]. وجميع أعداء الإسلام من اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيداً أن سبب غلبة الإسلام هي القيم والأخلاق والمثل التي يتمتع بها المسلمون، وأن منبع هذا الفيض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو المثل الأعلى لهذه القيم. وعرفوا بعد خمس سنين من الحروب، أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يكون بالسلاح، فقرروا شن حرباً دعائية ضد هذا الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول أول هدف لهذه الدعاية. ولكونهم من سكان المدينة، مكنهم ذلك من الإتصال بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم. فتحمل المنافقون وعلى رأسهم ابن أبيّ عمل هذه الدعاية. فحينما تزوج صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، وجد المنافقون ثلمتين، لإثارة المشاغب، الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟. والثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه- متبناه- فالزواج بها من أكبر الكبائر، حسب تقاليد العرب- وأكثروا من الدعاية، واختلقوا قصصاً وأساطير، قالوا: إن محمداً رآها بغتة، فتأثر بحسنها، وعلقت بقلبه، وعلم بذلك ابنه زيد فخلى سبيلها لمحمد، وقد أثرت تلك الدعاية في الضعفاء، حتى نزلت الآيات البينات، فيها شفاء لما في الصدور، وتنبئ عن سعة نشر هذه الدعاية، والله استفتح سورة الأحزاب بقوله:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب:١].

وهذه صورة مصغرة مما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكابد ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم أو يتحملونه بالصبر ، إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:١٢٦].

دور المنافقين في الغزوة:

ولما كانت غزوة بني المصطلق، وخرج فيها المنافقون مثّلوا قوله تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}[التوبة:٤٧] فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر فأثاروا الإرتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبيّ صلى الله عليه وآله  وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها.

١-قول المنافقين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. كان صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفراغ من الغزو مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسنان بن وبر الجهني على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة). وبلغ ذلك ابن أبيّ فغضب- وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث- وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال:(فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا، ولكن أذّن بالرحيل). وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له:(أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال:(زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله، تُخرجه منها إن شئت، هو والله لذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبته ملكاً. ثم مشى بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض، فوقعوا نياماً. فعل ذلك: ليشغل الناس عن الحديث. علم ابن أبيّ أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، فصدقه، قال زيد: فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فنزل {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ}[المنافقون:١]إلى قوله{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} إلى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}[المنافقون:٨]، فأرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأها عليّ، ثم قال: إن الله قد صدقك. وكان ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أذن له، فخلى سبيله، وقال عبد الله بن عبد الله بن أبي: يا رسول الله إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه.

دور المنافقين في الغزوة:

٢-حديث الإفك: خرج صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عائشة في هذه الغزوة، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقداً، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خفته، لأنها كانت فتية السن لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً لأنهم تساعدوا على حمله، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وكان صفوان في أخريات الجيش لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، وتنفس ابن أبيّ من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه، ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، والنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ساكت لا يتكلم، ثم استشار أصحابه في فراقها، فأشار عليه عليّ أن يفارقها، ويأخذ غيرها، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألايلتفت إلى كلام الأعداء، فقام على المنبر يستعيذ من عبد الله بن أبيّ، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله، فأخذت سعد بن عبادة- سيد الخزرج وهي قبيلة ابن أبيّ- الحمية القبلية، فجرى بينهما كلام تثاور له الحيان، فَخَفَّضَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى سكتوا وسكت. أما عائشة، فلما رجعت مرضت شهراً، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئاً، سوى أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نقهت خرجت مع أم مسطح إلى البراز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مرطها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فاتق كبدها، وجاء صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فتشهد وقال:(أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه). وحينئذ قلص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان، فقالت: والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة-والله يعلم أني بريئة- لاتصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر-والله يعلم إني منه بريئة- لَتُصَدِّقُنِّي والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف. قال:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ} [يوسف:١٨]. ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها:(يا عائشة، أما الله فقد برأك)، فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة- إدلالا ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم-: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:١١]. العشر الآيات. وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جُلدوا ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد الله بن أبيّ مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولى كبره، إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله.

وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك الإرتياب والقلق والإضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم لعمر:(كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأُرْعِدَتْ له آنُفٌ، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته). قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم بركة من أمري.

البعوث والسرايا بعد غزوة المُرَيْسِيع.

١-سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدومة الجندل:

شعبان٦ هـ. أقعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه، وعممه بيده، وأوصاه بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تماضر بنت الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم.

٢- سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَكَ:

شعبان ٦ هـ. بلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن بها جمعاً يريدون أن يُمِدُّوا اليهود، فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر، ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن.

٣- سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي الْقُرَى:

رمضان ٦ هـ. كان بطن فزارة يريد اغتيال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق. قال سلمة بن الأكوع: وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمَرَنَا فشننّا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، فيهم امرأة هي أم قرفة عليها قشع من أديم، معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوباً، وقد سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنت أم قرفة، فبعث بها إلى مكة، وفدى بها أسرى من المسلمين. وكانت أم قرفة تحاول اغتيال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وجهزت ثلاثين فارساً من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها وقتل الثلاثون.

٤-سرية كُرْزِ بْنِ جَابرٍ الْفِهْرِيِّ إِلَى الْعُرَنِيِّينَ:

شوال٦هـ وذلك أن رهطاً من عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذود في المرعى، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستاقوا الإبل وكفروا بعد إسلامهم، فبعث في طلبهم كرزا الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على العرنيين:(اللهم أعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مسك، فعمى الله عليهم السبيل)، فأدركوا، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُملت أعينهم، جزاء وقصاصاً بما فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا.

إن السرايا والغزوات بعد الأحزاب، وبني قريظة، لم يكن فيها قتال مرير، وإنما مصادمة خفيفة، فليست هذه البعوث إلا دوريات استطلاعية، أو تحركات تأديبية، لإرهاب الأعراب والأعداء الذين لم يستكينوا بعد. ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجرى الأيام كان قد أخذ في التطور بعد غزوة الأحزاب، وأن أعداء الإسلام كانت معنوياتهم في انهيار متواصل، ولم يبق لهم أمل في كسر شوكة الدعوة الإسلامية، وهذا التطور ظهر جلياً بصلح الحديبية، فكانت اعترافاً بقوة الإسلام، والتسجيل على بقائها في ربوع الجزيرة العربية.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين