نبي الرحمة (30)

 

النشاط العسكري بعد غزوة بني قريظة

مقتل سَلاَّم بن أبي الحُقَيْق:

كان سَلاَّم بن أبي الحُقَيْق- وكنيته أبو رافع- من أكابر مجرمي اليهود، الذي حزبوا الأحزاب ضد المسلمين وأعانهم بالمؤن والأموال، وكان يؤذي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولما فرغ المسلمون من قريظة استأذنت الخزرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قتله، وكان قتل كعب بن الأشرف على يد الأوس، فرغبت الخزرج في إحراز فضيلة مثلهم. وأذن صلى الله عليه وآله وسلم في قتله، ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت مفرزة قوامها خمسة رجال، من بني سلمة من الخزرج، قائدهم عبد الله بن عتيك. واتجهت نحو خيبر، حيث حصن أبي رافع، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم- رَجَعوا بمواشِيهم التي تَرْعَى- قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. قال عبد الله بن عتيك: فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق على ود. قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمَرُ عنده، وكان في علالي-غرفة- له، فلما ذهب عنه أهل سَمَرِه صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت علي من داخل. قلت: إنِ القوم نَذِرُوا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: يا أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دَهِشٌ، فما أغنيت شيئاً، وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله. ثم وضعت ظُبَةَ السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي، وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب. فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتَلتُه؟ فلما صاح الديك صاح الناعي على السور فقال: أَنْعَى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحدثته فقال:(ابسط رجلك)، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتَكِها.كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة ٥هـ.

سرية محمد بن مَسْلَمَة:

كانت أول سرية بعد الأحزاب وقريظة، عددها ثلاثون راكباً. تحركت إلى الْقُرَطَاءِ، بِنَاحِيَةِ ضَرِيَّةَ بالبَكَرات من أرض نجد، وبين ضَرِيَّةَ والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم ٦ هـ إلى بطن بني بَكْرِ بْنِ كِلابٍ، فلما أغارت عليهم هرب سائرهم، فاستاق المسلمون نَعَماً وشاءً، وقدموا المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بْن أثَالٍ الْحَنَفِيّ سيد بني حنيفة، كان قد خرج متنكراً لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر مسيلمة الكذاب، فلما جاؤوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(ما عندك يا ثُمَامَة؟) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتُلْ تقتلْ ذا دمٍ، وإن تُنعِم تُنعمْ على شاكر، وإن كنتَ تريدُ المال فسَلْ تعطَ منه ما شئتَ، فتركه. ثم مرّ به مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً، ثم مرّ مرة ثالثة فقال: - بعد ما دار بينهما الكلام السابق-( أطلقوا ثُمَامَة) فأطلقوه، فذهب إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم جاءه فأسلم، وقال: والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، وو الله ما كان على وجه الأرض دين أبغض عليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحبّ الأديان إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فبشره صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش قالوا: يا ثُمَامَة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي إليهم حمل الطعام، ففعل صلى الله عليه وآله وسلم.

غزوة بني لحيان:

غدر بنو لحيان بعشرة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرجيع، وتسببوا في إعدامهم، ولأن ديارهم متوغلة في الحجاز إلى حدود مكة، والتارات قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما تخاذلت الأحزاب، فرأى أن الوقت قد آن ليأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه، فخرج إليهم في ربيع الأول أو جمادى الأولى٦ هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم, وسمعت به بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة، وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.

متابعة البعوث والسرايا:

تابع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إرسال البعوث والسرايا. وهاك صورة مصغرة منها:

1- سرية عُكَّاشة بْنُ مِحْصَنٍ إلى الغَمْر:

ربيع الأول أو الآخر ٦ هـ. خرج عكاشة في أربعين رجلاً إلى الغمر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير ساقوها إلى المدينة.

٢- سرية محمد بن مَسْلَمَة إلى ذي القَصَّةِ:

ربيع الأول أو الآخر ٦هـ. خرج ابن مَسْلَمَة في عشرة رجال إلى القصة في ديار بني ثَعلَبةَ فكمن القوم لهم- وهم مائة- فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحاً.

٣- سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القَصَّةِ:

ربيع الآخر ٦هـ بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مَسْلَمَة, خرج ومعه أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا في الجبال، وأصابوا رجلاً واحداً فأسلم وغنموا نعماً وشاءً.

٤- سرية زيد بن حارثة إلى الجموم:

ربيع الآخر ٦هـ. والجموم ماء لبني سُليم في مر الظهران، خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُزَينةَ يقال لها: حَليمةُ، فدلتهم على محلة من بني سُليم أصابوا فيها نعماً وشاءً وأسرى، فلما قفل بما أصاب، وهب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمزينية نفسها وزوجها.

٥- سرية زيد إلى العيص:

جمادى الأولى ٦هـ، في سبعين ومائة راكب، وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص ختن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفلت أبو العاص، فأتى زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رد أموال العير عليه ففعلت، وأشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الناس برد الأموال من غير أن يكرههم، فردوها، حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدى الودائع إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، فرد عليه صلى الله عليه وآله وسلم، زينب بعد ثلاث سنين ونيف.

٦- سرية زيد أيضاً إلى الطَّرِف أو الطَّرِق:

جمادي الآخر ٦هـ . خرج زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سار إليهم، فأصاب من نَعَمِهِم عشرين بعيراً، وغاب أربع ليال.

٧- سرية زيد إلى وادي الْقُرَى:

رجب ٦هـ. خرج زيد في اثني عشر رجلاً إلى وادي القرى، لاستكشاف حركات العدو، فهجم عليهم سكان وادي القرى، فقتلوا تسعة، وأفلت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة.

٨-سرية الْخَبَطِ:

رجب ٨هـ، قال جابر: بعثنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثمائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط- نوع من الشجر- ، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر- جمعُ جَزُورٍ- ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقى إلينا البحر دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، وادّهنا منه، حتى ثابت- رجعت- منه أجسامنا وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحُمِّل عليه، ومر تحته، وتزودنا من لحمه وشائق- قَدِيدًا-، فلما قدمنا المدينة، أتينا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فذكرنا له ذلك، فقال:(هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا؟) فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه .

يتبع .......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم )

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين