نبي الرحمة (27)

السرايا والبعوث بين أحد والأحزاب

كان لمأساة أحد أثر سيء على سمعة المؤمنين، زالت هيبتهم، وأحاطت الأخطار بالمدينة، وكاشف اليهود والمنافقون والأعراب بالعداء، وطمعوا في القضاء عليهم، واستئصال شأفتهم.

فلم يمض على المعركة شهران حتى تهيأت بنو أسد للإغارة على المدينة، ثم قامت قبائل عَضَل وقَارَة في صفر٤هـ بمكيدة، سببت في قتل عشرة من الصحابة، وفي نفس الشهر قامت بنو عامر بمكيدة مثلها سببت في قتل سبعين من الصحابة، وتعرف هذه الوقعة بوقعة بئر مَعُونَة، ولم تزل بنو نضير تجاهر بالعداوة حتى قامت في ربيع الأول٤هـ بمكيدة تهدف إلى قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتجرأت بنو غطفان فهمّت بغزو المدينة في جمادى الأولى٤هـ. ولكن حكمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعادت للمسلمين هيبتهم المفقودة، وأكسبتهم العلو والمجد من جديد. وأول ما أقدم عليه بهذا الصدد هي حركة المطاردة التي قام بها إلى حمراء الأسد، فقد حفظ بها مقداراً كبيراً من سمعة جيشه، واستعاد بها من هيبتهم ومكانتهم ما ألقى اليهود والمنافقين في الدهش والذهول، ثم قام بمناورات أعادت للمسلمين هيبتهم، منها:

سرية أبي سلمة:

أول من قام ضد المسلمين بعد أحد بنو أسد بن خزيمة، فقد نقلت استخبارات المدينة أن طلحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما، يدعون بني أسد بن خزيمة إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسارع صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعث سرية قوامها مائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار، وأمّر عليهم أبا سلمة وعقد له اللواء، وباغتهم أبو سلمة في ديارهم قبل أن يقوموا بغارتهم، فتشتتوا في الأمر، وأصاب المسلمون إبلاً وشاءً لهم، فاستاقوها وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين لم يلقوا حرباً. مبعث هذه السرية الأول من المحرم٤هـ، وعاد أبو سلمة وقد نغر عليه جرح أصابه في أحد فلم يلبث حتى مات.

بعث عبد الله بن أُنَيس:

٥ محرم ٤هـ. نقلت الاستخبارات أن خالد بن سفيان الهذلي يحشد الجموع لحرب المسلمين، فأرسل صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أنيس ليقضي عليه. وظل عبد الله غائباً عن المدينة ثماني عشرة ليلة، ثم قدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم، وقد قتل خالداً وجاء برأسه، فوضعه بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطاه عصا وقال:(هذه آية بيني وبينك يوم القيامة) فلما حضرته الوفاة أوصى أن تجعل معه في أكفانه.

مأساة بئر معونة:

صفر ٤هـ. قدم أبو البراء عامر بن مالك المدعو بمُلاَعِب الأسِنَّة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يَبْعُدْ، فقال: يارسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك، لرجوت أن يجيبوهم، فقال:(إني أخاف عليهم أهل نجد) فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه سبعين رجلاً وأمّر عليهم المنذر بن عمرو الملقب بالمُعْنِقَ لِيمُوت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، فساروا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل، حتى نزلوا بئر معونةـ وهي أرض بين بني عامر وحَرَّة بني سُلَيْم ـ ثم بعثوا حَرَامَ بن مِلْحَان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدو الله عامر بن الطُّفَيْل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة. ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سُلَيْم، فأجابته عُصَيَّة ورِعْل وذَكَوان، فجاؤا وأحاطوا بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد بن النّجّارِ فإنه ارْتُثَّ من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ والمنذر بن عُقْبَةَ بن عامر في سرح المسلمين، فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأُسِر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مُضَر جَزَّ عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه. ورجع عمرو بن أمية إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً أنباء المصاب، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين، تُذِّكر نكبتهم نكبة أحد، إلا أنّ هؤلاء ذهبوا في قتال واضح، وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة. ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقَرْقَرَة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل، فقال: (لقد قتلت قتيلين لأدِيَنَّهما) وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود.

تألم صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هذه المأساة ومأساة الرجيع تألماً شديداً، عن أنس قال: دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين قتلوا أصحابه ببئر معونة ثلاثين صباحاً، يدعو في صلاة الفجر على رِعْل وذَكْوَان ولَحْيَان وعُصَية، ويقول:(عُصَيّة عَصَتْ الله ورسوله) فأنزل الله تعالى على نبيه قرآناً قرأناه حتى نُسخ بعد:[أَبْلِغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبّنَا فَرَضِيَ عَنّا وَرَضِينَا عَنْهُ] فترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قُنُوتَه.

غزوة بني النضير:

كان اليهود أصحاب دس ومؤامرة، فكانوا يجاهرون بالحقد والعداوة ويحتالون لإيذاء المسلمين بدون قتال، لكنهم بعد أحد تجرؤوا وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة سراً، وازدادوا جرأة بعد وقعة الرجيع وبئر معونة، حتى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه، وكلّمهم أن يعينوه في دية الكِلابيَّيْن اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري- وكان ذلك يجب عليهم حسب المعاهدة- فقالوا: نفعل يا أبا القاسم، اجلس ههنا حتى نقضي حاجتك. فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر ومعه أبو بكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه. وخلا اليهود بعضهم إلى بعض، فتآمروا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فقال أشقاهم عَمْرو بن جِحَاش: أنا. فقال لهم سلَّام بن مِشْكم: لا تفعلوا، فو الله ليُخبَرنَّ بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، ولكنهم عزموا على تنفيذ خطتهم. ونزل جبريل فأعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما همّوا به فنهض مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همّت به يهود. وما لبث صلى الله عليه وآله وسلم أن بعث مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ إلى بني النضير يقول لهم:(اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجَّلتكم عشراً فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه) ولم يجد يهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون, بيد أن عبد الله بن أبيّ بعث إليهم أن اثبتوا وتمنعوا، ولا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:١١] وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. فعادت لليهود ثقتهم وقرروا المناوأة، وطمع رئيسهم حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ في قول ابن أبيّ، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك. وكان بنو النضير على درجة من القوة تجعل القتال معهم محفوفاً بالمكاره، لكن بعد مأساة بئر معونة وما قبلها زادت حساسية المسلمين بجرائم الاغتيال والغدر التي تعرضوا لها، فقرروا أن يقاتلوا بني النضير مهما كانت النتائج. وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جواب حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ فكبر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزتهم. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وسار إليهم، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء، فلما انتهى إليهم فرض عليهم الحصار. فالتجؤا إلى حصونهم، فأقاموا عليها يرمون بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم، فأمر بقطعها وحرقها، ونزل:{ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ}[الحشر:٥] واعتزلتهم قريظة، وخانهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان، فلم يحاول أحد أن يسوق لهم خيراً أو يدفع عنهم شراً{كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر:١٦] ودام الحصار ست ليال، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا وتهيؤوا للإستسلام ولإلقاء السلاح، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأنّ لهم ما حملت الإبل إلا السلاح. فنزلوا على ذلك وخربوا بيوتهم بأيديهم، ليحملوا الأبواب والشبابيك، بل حمل بعضهم الأوتاد وجذوع السقف، ثم حملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير، فترحل أكثرهم وأكابرهم كحُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ و سلاّم بن أبي الحُقيق إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وأسلم منهم رجلان يَامِينُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ، فأحرزا أموالهما. وقبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاح بني النضير، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً. ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فقسمها بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصاريين لفقرهما، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. كانت الغزوة في ربيع الأول ٤هـ. ونزلت سور الحشر تصف الغزوة بالتفصيل، وابن عباس يقول عن سورة الحشر - سورة النضير -.

غزوة نجد:

وبالنصر الذي أحرزه المسلمون ـ في غزوة بني النضير ـ دون قتال وتضحية توطد سلطانهم في المدينة، وتخاذل المنافقون عن الجهر بكيدهم، وأمكن للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يتفرغ لقمع الأعراب الذين آذوا المسلمين بعد أحد، وتواثبوا على بعوث الدعاة يقتلون رجالها في نذالة. ونقلت استخبارات المدينة تحشد جموع البدو والأعراب من بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، فسارع صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخروج، يجوس فيافي نجد، ويُلقي بذور الخوف في أفئدة أولئك البدو القساة. وأضحى الأعراب لا يسمعون بمقدم المسلمين إلا حَذِروا وتمنّعوا في رؤوس الجبال. وهكذا أرهب المسلمون هذه القبائل المغيرة، ثم رجعوا إلى المدينة آمنين.

غزوة بدر الثانية:

استدار العام، وحضر الموعد المضروب مع قريش-في غزوة أحد- وآن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه أن يخرجوا ليواجهوا أبا سفيان وقومه، حتى يستقر الأمر لأهدى الفريقين وأجدرهما. ففي شعبان ٤هـ خرج صلى الله عليه وآله وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة وانتهى إلى بدر، فأقام بها ينتظر المشركين. أما أبو سفيان فخرج في ألفين من مشركي مكة ومعهم خمسون فرساً، خرج متثاقلاً، يفكر في عقبى القتال وقد أخذه الرعب، فلما نزل بمَرِّ الظَّهْرَان-على بعد مرحلة من مكة- خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. ويبدو أن الخوف كان مستولياً على مشاعر الجيش أيضاً, فرجع الناس دون معارضة أو إصرار على مواصلة السير للقاء المسلمين. وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بدرهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيبتهم في النفوس. وتعرف هذه الغزوة ببدر الموعد، وبدر الثانية، وبدر الآخرة وبدر الصغرى.

غزوة دُومة الجندل:

جاءت الأخبار بأن القبائل حول دومة الجندل -قريباًمن الشام- تقطع الطريق، وتنهب ما يمر بها، وقد حشدت جمعاً كبيراً لمهاجمة المدينة، فاستعمل صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة سِبَاع ابن عُرْفُطَة الغفاري، وخرج في ألف من المسلمين لخمس ليال بقين من ربيع الأول ٥هـ، وأخذ دليلاً من بني عُذْرَة. خرج يسير الليل ويكمن النهار، ليفاجئهم وهم غارُّونَ- غافِلون- فلما دنا منهم إذا هم مُغَرّبُونَ، فهجم على ماشيتهم ورعائهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب. أما أهل دُومة الجندل ففروا في كل وجه، فلما نزل المسلمون بساحتهم لم يجدوا أحداً. وأقام صلى الله عليه وآله وسلم أياماً، وبث السرايا وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحداً، ثم رجع إلى المدينة، ووادع في تلك الغزوة عيينة بن حصن. بهذه الإجراءات السريعة الحاسمة، والخطط الحكيمة نجح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بسط الأمن في المنطقة والسيطرة على الموقف، وتخفيف المتاعب الداخلية والخارجية التي كانت قد توالت عليهم وأحاطت بهم، فقد سكت المنافقون واستكانوا، وتم إجلاء قبيلة من اليهود وبقيت الأخري تظاهر بإيفاء حق الجوار والعهود والمواثيق، واستكانت البدو والأعراب، وحادت قريش عن مهاجمة المسلمين، ووجد المسلمون فرصة لنشر الإسلام وتبليغ الرسالة.

يتبع .......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين