نبي الرحمة (24)

غزوة أحد (3)

غلطة الرماة الفظيعة:

رغم الأوامر المشددة بلزومهم موقفهم من الجبل في حال النصر أو الهزيمة، لكن لما رأى الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو، غلبت عليهم، أثارة من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمةَ الغنيمةَ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ أما قائدهم عبد الله بن جبير فقد ذكّرهم أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وقال: أنسيتم ما قال لكم صلى الله عليه وآله وسلم؟ولكنّ الأغلبية لم تُلقِ لهذا التذكير بالاً وقالت: والله لنأتينّ الناس فلنصيبنّ من الغنيمة. ثم غادر أربعون رجلاً منهم مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسواد الجيش ليشاركوه في جمع الغنائم، وخلت ظهور المسلمين، ولم يبق إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه، التزموا مواقفهم، حتى يُؤذن لهم أو يبادوا.

خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيش الإسلامي:

انتهز خالد بن الوليد غلطة الرماة حين غادر أكثرهم جبل الرماة، فاستدار بسرعة حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف المشركون المنهزمون بالتطور الجديد، فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم وهي عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعت لواء المشركين المطروح، فالتف حوله المشركون ولاثوا به-التجأوا-، وتنادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف.

موقف الرسول الباسل إزاء عمل التطويق:

كان صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ في مفرزة صغيرة- تسعة نفر من أصحابه- في مؤخرة الجيش, يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين، فبوغت بفرسان خالد، فكان أمامه طريقان، إما أن ينجو- بالسرعة- بنفسه وبأصحابه التسعة إلى ملجأ مأمون ويترك جيشه المطوق، وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها الطريق لجيشة المطوق إلى هضاب أحد. وهناك تجلت عبقريته صلى الله عليه وآله وسلم وشجاعته، فرفع صوته ينادي أصحابه: (عباد الله) وهو يعرف أن المشركين سوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم مخاطراً بنفسه. وفعلا فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.

تبدد المسلمين في الموقف:

وقع المسلمون في التطويق وطار صواب طائفة منهم، فأخذت طريق الفرار، وفر بعضهم إلى المدينة حتى دخلها، وبعضهم إلى فوق الجبل، ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هُزم المشركون هزيمة بَيِّنة، فصاح إبليس: أي عباد الله أُخْراكُمْ -أي احترزوا من ورائكم- فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي. قالت: فو الله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، قال عروة: فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله. وعمت الفوضى في صفوف هذه الطائفة، وتاه الكثيرون، لا يدرون أين يتوجهون، حتى سمعوا صائحاً: إن محمداً قد قُتل. فطارت بقية صوابهم وانهارت الروح المعنوية أو كادت، فتوقف بعضهم عن القتال وألقوا أسلحتهم، وفكر آخرون في الإتصال بعبد الله بن أبيّ- رأس المنافقين- ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان. ومر بهؤلاء أنس بن النضر، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتل صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم قال: اللهم إنّي أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلَقِيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إنّي أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قُتل. ونادى ثابت بن الدحداح قومه فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قُتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مُظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم حتى قتله خالد بالرمح، وقُتل أصحابه. ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ في دمه، فقال: يا فلان أَشَعَرْتَ أنّ محمداً قد قُتل؟فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بَلّغ، فقاتلوا عن دينكم. وبمثل هذا الإستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن الإستسلام أو الإتصال بابن أُبيّ، وأخذوا سلاحهم، وهاجموا المشركين، يحاولون شق الطريق إلى مقر القيادة، فبلغهم أن مَقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَذِب مُخْتَلَق، فزادهم قوة فنجحوا بالإفلات من التطويق. وهناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكَرّت هذه الطائفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب وغيرهم، أحسوا بالخطر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصاروا في مقدمة المدافعين.

إحتدام القتال حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

عن أنس بن مالك أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أُفْرِدَ يَومَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِن قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ - قَرُبوا مِنه- قالَ: مَن يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّةُ؟أَوْهو رَفِيقِي في الجَنَّةِ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً، فَقالَ: مَن يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّةُ؟أَوْ هو رَفِيقِي في الجَنَّةِ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذلكَ حتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ:(ما أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا) وكان آخر السبعة عمارة بن يزيد بن السَّكَن قَاتَل حتى أثبتته الجراحة فسقط.

أحرج ساعة في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

عن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وكانت أحرجَ ساعة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفرصة ذهبية للمشركين، لم يتوانَ المشركون في انتهازها, فقد ركزوا حملتهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطمعوا في القضاء عليه، رَمَاهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِالحِجَارَةِ فَوَقَعَ لِشِقِّهِ، وَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ اليُمْنَى السّفْلَى وَكَلِمَتُ شَفَتُهُ السُّفْلَى، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللِه بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ فَشَجَّهُ في جَبْهَتِهِ، وَجَاءَ فَارِسٌ عَنِيدٌ هُوَ عَبْدُ اللِه بْنُ قَمِئَةَ فَضَرَبَ على عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ ضَرْبَةً عَنِيفَةً، شَكَا لِأَجْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَتْكِ الدِّرْعَيْنِ، ثمَّ ضَرَبَ على وَجْنَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ضَرْبَةً أُخْرَى عَنِيفَةً كَالأُولَى حَتَّى دَخَلَتْ حَلَقَتَانِ مِنْ حِلَقِ المِغْفَرِ في وَجْنَتِهِ وَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ قَمِئَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ: (أَقْمَأَكَ اللهُ) وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم كُسرت رَبَاعِيَته، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجّوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله) فأنزل الله عز وجل:{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }[آل عمران:١٢٨] وفي رواية الطبراني أنه قال يومئذ:(اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رسوله) ثم مكث ساعة ثم قال:(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وقام سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله ببطولة نادرة، وقاتلا ببسالة منقطعة النظير، ولم يتركا- وهما اثنان- سبيلا إلى نجاح المشركين في هدفهم. فأما سعد فقد نثل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كنانته وقال:(ارم فداك أبي وأمي) و النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد. وأما طلحة، قال جابر: فأدرك المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(من للقوم) فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار وقَتْلَهم واحداً بعد واحد، فلما قُتل الأنصار كلهم تَقدّم طلحة، قال جابر: ثم قاتلَ طلحةُ قتالَ الأحدَ عشرَ حتَّى ضُرِبَت يدُهُ فقطِعت أصابعُهُ فقالَ "حِسِّ"- وهي كلمةٌ تُقالُ عندَ الألَمِ- فقالَ رسولُ اللَّهِ:(لو قلتَ بِسمِ اللَّهِ لرفعتْكَ الملائِكةُ والنَّاسُ ينظرونَ) ثمَّ ردَّ اللَّهُ المشرِكينَ. ووقع عند الحاكم في الإكليل أنّه جُرح يوم أحد تسعاً وثلاثين أو خمساً وثلاثين، وشُلّت إصبعه، أي السبابة والتي تليها. وعن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد. وروى الترمذي وابن ماجه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ:(من أحَبَّ أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) وعن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة. وفي ذلك الظرف الدقيق والساعة الحرجة أنزل الله نصره بالغيب، فعن سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض، كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. وفي رواية يعني جبريل وميكائيل.

بداية تجمع الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

كان الأخيار من الصحابة في مقدمة صفوف المسلمين, فما إن سمعوا صوته صلى الله عليه وآله وسلم حتى أسرعوا إليه؛ لئلا يصل إليه شيء يكرهونه، إلا أنهم وصلوا وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لقي من الجراحات, فلما وصلوا أقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم، وأول من رجع إليه أبو بكر الصديق. فعن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت بين يديه رجلاً يقاتل عنه ويحميه، قلت: كن طلحة، فداك أبي وأمي، كن طلحة، فداك أبي وأمي- حيث فاتني مافاتني، فقلت يكون رجل من قومي أحب إلي- فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا طلحة بين يديه صريعاً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دونكم أخاكم فقد أوجب) وقد رُمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجنته، حتى غابت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته، فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فأخذ بفيه، فجعل يُنَضِّضُه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم استل السهم بفيه، فندرت ثَنِيَّة أبي عبيدة، قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، قال: فأخذه فجعل يُنَضِّضُه حتى استله، فندرت ثَنِيَّة أبي عبيدة الآخرى، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دونكم أخاكم، فقد أوجب) قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة. وخلال هذه اللحظات الحرجة اجتمع حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عصابة من أبطال المسلمين، منهم أبو دجانة، ومصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، وسهل بن حنيف، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، وقتادة بن النعمان، وعمر بن الخطاب، وحاطب بن أبي بلتعة، وسهل بن حنيف، وأبو طلحة.

تضاعف ضغط المشركين:

زاد ضغط المشركين على المسلمين، حتى سقط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فجُحِشَتْ ركبته، وأخذ عليّ بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائماً، وقال نافع بن جبير: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً، فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسطها، كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنبه، ما معه أحد، ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله أنه منا ممنوع. فخرجنا أربعة. فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك.

يتبع .......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين