نبي الرحمة والملحمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

جاءني سؤال عبر الماسينجر، يقول كاتبه - بعد السلام والاحترام - : لو تكرمتم علينا مما أفاض الله عليكم من فضله وأفضاله بجواب لسؤالي:

«اللهم أَصلح لي سمعي وبصري،واجعلهما الوارثين مني، وانصرني على من ظَلَمَنِي، وأرني منه ثأري»

اولا: لماذا خص السمع والبصر؟

ثانيا: كيف يكونان وارثين؟

ثالثا: كيف يطلب سيدنا النبي الثأر والانتقام ممن ظلمه!

في حين نعلم أنه كان يقول :

اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وقد وقع عليه اقسى الظلم؟

وكذلك قال في فتح مكة:

لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.

وهو نبي العفو والتسامح والصفح الجميل؟!

افيدونا جزاكم الله عنا كل خير.

-------

فكتبتُ في جوابه:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

حياك الله يا أخي.

المعذرة عن التأخر في الرد، فقد كان بين يدي مشاغل لها الأولوية.

كما أن سؤالك يتطلب بسطا في الجواب.

أما الحديث المذكور فرواه الترمذي في جامعه بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من يظلمني، وخذ منه بثأري)

وأما سؤالك: لماذا خصّ السمع والبصر؟

فالجواب: لأنهما من أعظم الحواس منفعة، ولذلك امتن الله سبحانه بهما مرارا وتكرارا على الناس، محرِّضا على شكرهما. كما في قوله تعالى في سورة النحل: (..وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ)[سورة النحل 78]

وقد قيل: إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فأغمض عينيك.

وأما سؤالك: كيف يكونان وارثين؟ 

فالجواب: أن الوارث في الأصل هو الذي يبقى بعد موت سلفه، فيرث ما كان عنده.

وفي هذا الدعاء طلب بقاء السمع والبصر سليمَين بعد ذهاب كل القوى الأخرى.

ليكون السمع والبصر بمثابة الوارثَين لسائر القوى الأخرى التي كانت صحيحة فاعتلَّت أو ماتت، فيبقيان صحيحين ما دام صاحبها حيا، إلى أن يموت.

وأما سؤالك الثالث: كيف يطلب سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم الثأر، وهو القائل: اللهم اهد قومي....

فالجواب: أنه لا تعارض بين هذا الدعاء وبين قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي...

فإن قوله: (اللهم اهد قومي) إنما كان في الفترة المكية عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من دعوة أهل الطائف.

وفي الفترة المكية لم يكن الجهاد بالسيف قد شُرع. 

فلم يكن عليه صلى الله عليه وسلم، ولا على أصحابه آنذاك، إزاء جهل الجاهلين، إلا الصبر على الأذى.

والدعاء في الحديث الذي تسأل عنه، كان في المدينة بعد الهجرة، لأن رَوايَه أبا هريرة لم يسلم إلا في السابعة من الهجرة.

ومعلوم أن الجهاد بالسيف قد شُرع بعد الهجرة.

والدعاء بالنصر على الظالمين وبأخذ الثأر منهم، متَّسق مع مشروعية جهادهم.

فإن الكفار الظلمة المحاربين الذين تحل دماؤهم، يحل الدعاء عليهم من باب أولى.

وإلا فهل يُعقل أن تُحرضنا الشريعة على قتالهم وقتلهم، ثم تدعونا إلى التورع عن الدعاء بالنصر عليهم؟!!

وأما قوله لأهل مكة: لا تثريب عليكم.. 

فصحيح أن ذلك كان بعد الهجرة وبعد تشريع الجهاد بالسيف.

ولكنه صلى الله عليه وسلم قاله بعد أن أذعنوا له واستسلموا.

فإنهم ألقوا السلاح ولزموا بيوتهم لينالوا أمان النبي صلى الله عليه وسلم المشروط بذلك.

وتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من دخول الكعبة رغما عنهم.

ولما خرج من الكعبة وقد اجتمع المشركون عندها، قال لهم: ما تظنون أني صانع بكم؟

فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال: لا تثريب عليكم.. وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

ويأتي هذا على وفق قول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ) [سورة الأنفال 61]

فقد جنحوا هنا للسَّلم، فجنح لها النبي صلى الله عليه وسلم، كما أمره ربه سبحانه.

ولو لم يجنحوا للسَّلم لما رأوا منه صلى الله عليه وسلم إلا السيف.

صحيح أنه صلى الله عليه وسلم جاء لهدايتهم لا لقتلهم.

ولكن عندما يتخذ الكفار من قوتهم أداة للعدوان على أمة الإسلام، أو لفتنة الناس عن دين الله، وصدهم عن دعوة الحق، فإن سيف الجهاد كفيل بضرب تلك الأداة، كما قال تعالى:(وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ وَیَكُونَ ٱلدِّینُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡا۟ فَلَا عُدۡوَ ٰ⁠نَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ) [سورة البقرة 193]

فإذا رأى الكفار المحاربون قوة المسلمين ورهِبوا بأسهم، حملهم ذلك على الموادعة والإذعان، لينالوا السلام ويدخلوا في الإسلام.

وتلك سعادتهم التي يدعوهم إليها الإسلام.

ولو لم يرَ مشركو مكة من قوة المسلمين ما يرهبهم لما سالموا ولا أسلموا، ولا دخلوا في دين الله أفواجا.

وأما قولك عن النبي صلى الله عليه وسلم: وهو نبي العفو والتسامح والصفح الجميل...

فهذا نصف الحقيقة الذي يَحرص المضلون اليوم من علماء السلاطين، وعملاء الكافرين من الإعلاميين والمفكرين الزائغين، على تقديمه للمسلمين، وحجب نصف الحقيقة الثاني عنهم ليلبسوا عليهم دينهم، خدمة للمشاريع الاستعمارية المتعددة التي ترمي إلى تعطيل فريضة الجهاد وإخماد روحها في نفوس المسلمين، ليسهل على أصحاب تلك المشاريع الاستيلاء على بلاد المسلمين وثرواتهم، غنيمة باردة، لا يُروّعون فيها ولا يزعَجون.

الشطر الثاني من الحقيقة يا أخي أن نبي العفو والتسامح والصفح... هو نفسه صلى الله عليه وسلم نبي السيف والغزو والقتال والقتل.

وفي الأوسط للطبراني، ومسند الإمام أحمد، وصحيح ابن حبان، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فقال: (أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة).

قال العلامة عبد الرؤوف المُناوي عند شرح هذا الحديث في فيض القدير: "فهو نبي الملحمة التي بسببها عمَّت الرحمة وثبتت المرحمة". اهـ

فهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة في آن واحد.

ولا تناقض في ذلك ولا تعارض.

لأن الملحمة صفة كمال عندما تقع موقعها، كما أن المرحمة صفة كمال في موضعها.

وإلا فإن الذي قال: اللهم اهد دوسا وائت بهم.. "متفق عليه."

هو نفسه صلى الله عليه وسلم الذي قال: "اللهم العن بني لِحيان، والعن رِعلا وذَكوان.. "متفق عليه."

وإن الذي قال لقريش يوم الفتح: لا تثريب عليكم..

هو نفسه صلى الله عليه وسلم الذي أمر بقتل كل البالغين من رجال بني قريظة في يوم واحد، وكانوا يربُون على الستمائة.

وقديما قالت العرب: لكل مقام مقال.

وفي شعر الحكمة قول أبي الطيب:

ووضْعُ الندى في موضع السيف بالعلا=مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى.

وقبله قال الشاعر الصحابي النابغة الجعدي:

ولا خير في جهل إذا لم يكن له=حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

ولا خير في حلم إذا لم يكن له=بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

وقد أنشد النابغة رضي الله قصيدته الرائية هذه، النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

فلما وصل إلى هذين البيتين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت، لا يفضض الله فاك. كذا في زوائد البزار.

إن الذي يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة واللين فحسب، ويلغي عنه صفة الشدة في موضعها على أعداء الله، مضلِّل مُلَبِّس.

كيف وقد قال الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، في موضعين من كتابه الكريم: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ جَـٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَـٰفِقِینَ وَٱغۡلُظۡ عَلَیۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ) [سورة التوبة 73 وسورة التحريم 9] 

وكذلك الذي يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والقتل والقتال.

وينفي عنه صفة الرحمة واللين. مُضَلِّل مُلَبِّس. 

كيف وقد قال الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِینَ)[سورة آل عمران 159]

والحق التوازن بين اللين والشدة. وهذا هو الكمال، وهو مقتضى الحزم والحكمة.

لا لَيِّنا فتُعصر. ولا يابسا فتُكسر.

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين