
إنّ فلسفة الحضارة المادية المتوحشة ، قائمة على الاستعلاء والعصبية التي تقلّل من شأن الآخر ، وتستهين بحقوقه وحياته ، ففي سبيل المصلحة والأنانية تدوس كل القيم ، وتغتال كل المبادىء ، ولو أدي هذا إلى شيوع الفساد ، وتخريب البلاد ، وإزهاق أرواح العباد ، وتشتيت مَن بقي منهم في كل واد ..!
إنّ العالم في ظل هذه الحضارة المتغطرسة بقوتها ، والفاقدة لإنسانيتها ، أصبح علي شفا حفرة من الهاوية ، وما شهده العالم بالأمس وما يشهده اليوم من المآسي الدامية لهذه الحضارة المتوحشة هو ما عبّر عنه الفيلسوف الإنجليزي ( جود ) في كتابه ( العرب والحضارة الحديثة) : ( إن العلوم الطبيعية قد منحتنا القوة القاهرة ، ولكننا نستعملها بعقول الأطفال والوحوش ، إذْ استعبدنا الناس بها ) !
إنّ مستقبل الإنسانية أصبح مُهدّدا في ظل هذه الحضارة التي سلبت من الإنسان إنسانيته ، وأطلقت فيه غرائزه وحيوانيته .. !!
قال رئيس بلدية ( كليفلند ) الأمريكية : ( إذا لم نكن واعين فسيذكرنا التاريخ علي أساس أننا الجيل الذي رفع إنسانا إلي القمر ، بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات ) !
وهذا ما عبّر عنه الشاعر الهندي الكبير ( طاغور ) لأحد مفكري الغرب : ( صحيح أنكم استطعتم أن تُحلّقوا في الهواء كالطير ، وأن تغوصوا في البحر كالسمك ، ولكنكم لم تُحسنوا أن تمشوا علي الأرض كالإنسان ) !
إن همومَ الإنسانية المُحزنة ، وآلامَ البشرية الموجعة ، ومشكلاتِ العالم المستعصية ، لا تُحل ولا تُرفع إلا بهدي مَنْ أرسله الله رحمة للعالمين ..
ولقد أدرك هذه الحقيقةَ الفيلسوفُ الإنجليزي ( برنارد شو ) حيث قال : ( إن المدنية الأوربية آخذة في الانهيار ، وما أحوج أوربا إلى رجل كمحمد ، يحل مشكلاتها ويحقق لها الرخاء والسعادة ، وهما مطلب كل إنسان ) !
وأتساءل - وأنا حزين - : هل يدرك المسلمون ما أدركه ( برنارد شو ) ، فيعتزّون بدينهم ، ويعرفون قدر نبيّهم ، ويقدّمون للبشرية المُعذَبة ما فيه خَلاصها .. ؟!
إنّ العالم اليوم يحترق ويبحث عمّن يأخذ بيده ، بعدما تردّى في هاوية الرذيلة وأودية الفساد .. فهل يري الناس فينا ما يفتقدونه ، وما يبحثون عنه من مُثُل ؟ ، وهل ينتظرنا العالم اليوم - علي شوق - كما كان ينتظر من قبل الفاتحَ المسلمَ ، الذي كانت تسبقه أخلاقه ، وتزينه مروءته ، وتسمو به إنسانيته .. ؟!!
يروي التاريخ : ( أنّه فيما كان الجيش الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص يقترب من عاصمة مصر ، كانت (ابنة المقوقس) مع وصيفتها ( أرمنوسة ) في إحدى غرف القصر ترتعد فَرَقا ، وتقول : ما أتعس حظنا ، إن هؤلاء البدو القادمين من الصحراء لا شك سيهتكون سترنا ويبيحون عرضنا ، وإن قاومنا سيقتلوننا !.. قالت لها ( أرمنوسة ) تهدّىء روعها : لا يا مولاتي ، إنّ هؤلاء البدو أتباعُ دين جديد ، يحضّ علي التعفف وصيانة الأعراض ورعاية الحرمات ، وإنهم يخرجون من الصحراء وكل منهم يحمل مسجده في قلبه ، وهم لا يرفعون السيف إلا بقانون ولا يضعونه إلا بقانون ، وإنَّ الواحدة منا لآمن على نفسها وعرضها في كنف الواحد منهم عنها مع أبيها ) !!
بهذه الأخلاق النبيلة ، وبتلك النفوس العظيمة ، فُتحت للمسلمين - من قبل - البلادُ ، وانقادت لهم قلوبُ العباد ..!
وأخيرا ، هل يدرك العرب رسالتهم تجاه البشرية المتخبطة ، ويَعون ما قاله الشيخ ( الغزالي ) - رحمه الله تعالي - : ( إنّ الله - عز وجل - ربَّى محمدًا – صلي الله عليه وسلم – ليُربّي به العرب ، وربَّى العربَ بمحمدٍ ليربّي بهم الناسَ أجمعين ) ؟!
أم يتحقق فيهم ما ذكره الله قديما في منافقي العرب : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ }؟! (التوبة: 126).
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول