ميزان راجح

ميزان راجح

محمد محمد الأسطل

قرع الحسن البصري باب قلوبنا؛ ليفضح كل خائف على رزقه أن يضيع، فقال: قَرَأْتُ فِي تَسعِينَ مَوْضِعًا فِي القُرْآَنِ أَنَّ اللهَ قَدَّرَ الأَرْزَاقَ، وَقَرَأْتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ} فَشَككنَا فِي قَوْلِ الصَّادِقِ فِي تِسعينَ مَوضِعًا، وَصَدَّقْنَا قَوْلَ الكَاذِبِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ !

أخرج الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ" [سنن الترمذي، رقم الحديث: (2465)، ص (556)].

فقد جعل الله تعالى فئات العباد تندرج تحت لواءين: الدِّين والدُّنيَا، فَقَضَى بِحِكمَتِهِ أنَّ من قَامَ بِحَقِّ الأولِ وَهُو الدِّين، فَإِنَّه يَتَكَفَّلُ أمرَهُ في الآخر وهو الدُّنيا، أما الفَاتر في الأول فَمَوكُول إلى نفسه، وَمَحرومٌ من العِنَايةِ الإلهية في الآخر..

أخي: إنَّ من تَفَرغَ لِخِدمة دِينه؛ فَإِنَّ اللهَ عزَّ وجلّ يَتَولاه، شَاءت دُنْيَاه أم أَبَتْ، بل يَحيا فِيهَا سَعيدًا بِلا غَمٍّ وَلا هَمٍّ، ولا يخشى فَوات دينارٍ ولا دِرهَم، ولمَّا غضَّ عنها البصر، وجد ربه يكفيه كل أَمْر، فَأَعمَلَ وقتَهُ كله في إعلاء لواء دينه، والتهيؤ لِيَوم الحساب، فَأتاه رزقُ الله من حيث لا يَحتَسبُ بِغَيرِ عِدَادٍ ولا حِسَاب..

أما من كانت الدنيا همه، كَثُرَ في الدنيا والآخرة غمُّه، وأكثر اللهُ مهامه وشغله، وعُرِضَت له الشهوات عرضًا، حتى سيطرت على كيانه وقلبه، وحُرم من حُبِّ الطَّاعة، وَكَثرةِ المُناجَاةِ والضَّراعةِ، ثم تتمنع عليه الدنيا، فلا تُعطِيهِ إلا ما كُتِبَ له، بلا زيادةٍ ولا بَرَكة، بل يَتَنقَّل من أزمةٍ إلى أخرى، وفي الأثر: "يَا دُنيَا اخْدِمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَن خَدَمَكِ" !

عقد وهب بن منبه المقارنة بين الدنيا والآخرة، وبعد التحقيق، أفاد بفهمه الدقيق: "إنَّهُمَا كَالضُّرتين إذا أَرضَيتَ إحداهُما أَسْخَطتَّ الأُخْرَى !"

وقد جسَّد الشاعر هذا المعنى بقوله الرقراق:

عَتِبْتُ على الدنيا لِرفعة جاهـلٍ ** وخفضٍ لذي علم، فقالتْ: خُذِ العُذْرا

بنو الجهلِ أبنائي لهذا أُجِلُّهـم ** وبنو العلـم أبناءُ ضُرَّتِـي الأخـرى

أَأَتْرُكُ أبنائي يموتون ضَيْعـةً ** وأُرضِعُ أبنـاءَ ضرتـي الأخـرى

استجاب سلفنا الصالح لنتيجة المقارنة، فَعَمَّرُوا آخرتهم، وإذا بالدنيا تسخط، فَعَجِبَ عُشَّاقُهَا منهم كيف تركوها ومنها يَفِرُّون، فَأَخذُوا منهم يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وقد رأى الإمام الحسن البصري الفريقين، فكتب تقريرًا دقيقًا جاء فيه: "أَدْرَكنَا أقْوَامًا لَو رأيتُمُوهُم لَقُلْتُم مَجَانِين، وَلَو رَأَوْكُم لَقَالُوا شَياطِين" !

فَلَمَّا كان يومُ القيامةِ، وإذا بِأَهلِ الدُّنيا يأتون، وفي أعينهم الحَزَن، أما أولئكم فيتقدمون وهم يَضحَكُون، فهل هؤلاء كهؤلاء يا أخي؟ حقًا وربي لا يستوون !، اقرأ إن شئت قول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] !

 

الهم المنتصر:

أخرج ابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ الْمَعَادِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ" [سنن ابن ماجه، رقم الحديث: (4106)، ص (683)].

يا الله.. ما أزكى هذا الحديث ! وما أَجَلَّ هذا الكلام !  إنَّ من تغافل عن كل الهموم إلا هم مَعَاده وآخرته تكفل الله له بهمومه الباقية جميعًا، أما من عاش حياته في تلك الهموم؛ فلا يُبَالِ اللهُ في أي مكانٍ هلك..

أخي: إنَّ الإنسان بِجَهالته يفكر اليوم في ألف هَمٍّ وَهَم، ويعلم اللهُ أَنَّ النفسَ تضيقُ بِهَمٍّ واحدٍ، فَكَيفَ بِثَانٍ وَثَالِثٍ وَألف؟! فَتَجِدْهُ يمشي كَالعَرجاء، مُتَخبطًا في الظلماء، يَقتَرِفُ الشبهات علَّه يُحَصِّل درهم، ويحتال على الشريعة علَّه يأتي بدينار، وما عَلِمَ أنَّهُ يُحارب نفسه، وينتقم من ذاته، ويُلقِي بها في مَهاوِي الردى..

إذا أتت الإساءَة من وضيعٍ *** ولم أَلُمِ المسيءَ فمن ألومُ

ولو كان همَّاً واحداً لاحتملتهُ *** خواطر قلبي كلُّهنَّ همومُ

إنَّ السَّعيدَ من جَعَل الهُمومَ همًا واحدًا، فَإِن سَار فَلِلَّه، وإن تكلم فَبِالله، وإن سَكَت فَمَع الله، ينامُ بِلا هُموم، ويَبِيتُ بِلا غُموم، فَهَذَا عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الموت، قَبَّلَهُ ثم زَكَّاهُ بِأَجَلِّ شَهادة:

"رَحِمَكَ اللهُ يَا عُثْمَان.. مَا أَصَبْتَ مِنَ الدُّنيَا وَلا أَصَابَت مِنْكَ" ! [السيوطي / جامع الأحاديث (13/130).]

وانظر لِعَبدِ الله بن عُمر: كَان لَهُ حِمارٌ فَبَاعَهُ، فَقِيلَ له: لو أمسكته! فقال: لقد كان لنا مُوافقاً؛ وَلكِنَّهُ أذهب بِشُعبَةٍ من قلبي، فَكَرِهْتُ أن أُشْغِلَ قلبي بِشَيءٍ..

فَتَفَرغ -أُخَيَّ الفاضل- من هُموم الدنيا، وَكِلْهَا لمن يكفيك إياها، فإن فعلت أغناك وَسَدَّ فقرك، وكان لك بِكُلِّ خيرٍ أسرع، فقد أخرج الترمذي وابن ماجه في سننيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله سبحانه: "يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ"! [سنن الترمذي، رقم الحديث: (2466)، ص (556)، سنن ابن ماجه، رقم الحديث: (4107)، ص (683)]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين