ميثاق التعايش

لما هاجر رسول الله إلى المدينة المنورة وفيها من اليهود ثلاث قبائل، كان من أول ما عمله من شؤون الدولة أن أقام بينه وبينهم ميثاقاً تحترم فيه عقائدهم، وتلتزم فيه الدولة بدفع الأذى، ويكونون مع المسلمين يداً واحدة على من يقصد المدينة بسوء. وبهذا بذر رسول الله البذور الأولى للتسامح الديني في الحضارة الإسلامية، ووضع لهذا التسامح قوانين تنفيذية عملية ذات شكل تطبيقي واقعي.

هذا على مستوى الدولة والتنظيم، أما على مستوى الصلة الطيبة بالأفراد والجماعات غير المسلمة من حيث العلاقات الاجتماعية كالهدية والزيارة، والجيرة والضيافة؛ فقد كان الأمر هو أيضاً على جانب عظيم من التسامح والبر، والدماثة وحسن المعشر. لقد كان لرسول الله جيران من أهل الكتاب فكان يتعاهدهم ببره، ويهديهم الهدايا، ويقبل منهم هداياهم.

ولما جاء وفد نصارى الحبشة أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على خدمتهم وضيافتهم، كرماً وجوداً وحسن خلق من ناحية، ووفاءً وردّاً للجميل من ناحية أخرى؛ لأن نجاشي الحبشة كان قد أحسن استقبال المسلمين، وأكرمهم يوم هاجروا إلى بلده فراراً مما كانت تلحقه بهم قريش من صنوف التعذيب والأذى، وكان مما قال رسول الله وهو يكرم الوفد الحبشي النصراني: ((إنهم كانوا لأصحابنا مكرِمين، فأحب أن أكرمهم بنفسي)).

وجاءه مرة وفد نصارى نجران فأنزلهم في المسجد، وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، ولمّا أرادوا أن يناقشوا الرسول الكريم في الدفاع عن دينهم استمع إليهم وجادلهم، كل ذلك برفق وأدب، وسماحة وخلق، وسعة صدر. ومعروف أنه عليه الصلاة والسلام قبِل من المقوقس حاكم مصر القبطي النصراني هديته، ومن الهدية جارية تسرّى بها وولدت له ابنه إبراهيم الذي لم يعش إلا وقتاً قصيراً. ومن وصاياه للمسلمين: ((استوصوا بالقبط خيراً، فإن لكم فيهم نسباً وصهراً))، ومعروف أن هاجر زوجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأم ولده إسماعيل كانت من مصر.

وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني، ذي النزعة الإنسانية الرفيعة سار خلفاؤه من بعده، فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يجيب سكانها المسيحيين إلى ما اشترطوه من أن لا يساكنهم فيها يهودي. وقد أبى أن يصلي في كنيسة القدس (القيامة) حين أدركته صلاة العصر كيلا يتخذ المسلمون بعده من هذه الصلاة ذريعة للمطالبة بهذه الكنيسة وتحويلها إلى مسجد.

إنها ذروة سامقة جداً ما عرفنا حضارة أخرى ارتفعت إليها، الخليفة المنتصر يأبى الصلاة في كنيسة قوم مغلوبين ليقطع الطريق بذلك على محاولةٍ قد يقوم بها من بعدُ مسلم متعصب ضيق الأفق فيقول: ها هنا صلى عمر!.. وينبغي أن يكون مكان صلاته مسجداً لا كنيسة.

ويروى أن امرأة مسيحية من مصر شكت إلى عمر بن الخطاب أن والي مصر عمرو بن العاص أدخل دارها في المسجد كرهاً عنها، فسأل عَمْراً عن ذلك فأخبره عمرو أن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم وفي جواره دار هذه المرأة، وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها، وبالغ في الثمن، فما رضيت، فاضطر عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال تأخذه متى شاءت.

ومع أن تصرف عمرو عادي ومعقول، بل وكريمٌ كذلك، إذ عرض عليها الثمن وزاد فيه، وحين أبت تركه لها وديعة في بيت المال، ومع أنه عمل تبيحه القوانين الحاضرة فلا لوم على عمرو فيه ولا تثريب، إلّا أن الخليفة عمر بن الخطاب لم يرضَ ذلك كله، وأمر عَمْراً أن يهدم البناء الجديد من المسجد، ويعيد إلى المرأة المسيحية المصرية دارها كما كانت.

إنها الروح الإسلامية العميقة التي تأصلت فينا نحن -المسلمين- على جميع الأصعدة من الفرد إلى الحضارة، مروراً بكل المؤسسات والأنظمة والقوانين، هي التي تقف وراء هذه الشوامخ الرائعة من كرام المواقف الإنسانية النبيلة، شاهد صدق على عظمة الإسلام كدين، وسمو المسلمين كأمة، وتألق مسيرتهم عبر التاريخ حضارة هدي ونور، وتعاون وبِر، وعدل ومساواة، وكرامة ورشد.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين