موقف تاريخي رائع

بعد تسريحي في منتصف تشرين الثاني عام 1974من الخدمة العسكرية التي دامت قرابة ثلاث سنوات ونصف التحقت بوظيفتي مدرساً للعربية في قرية (الحاضر) جنوب حلب أربعة وعشرين كيلومتراً، أهل القرية بعشائرها الثلاث - أل عبيدات وآل حومد وآل الزامل - كرام يحبون الضيف ويعتنون به، ويشعر العامل فيها بالراحة النفسية والماليّة، فإمام المسجد – مثلاً- راتبه الشهريُّ ثلاث مئة ليرة سورية يوفّر منها سنوياً بين ثلاثة عشر ألفاً وأربعة عشر ألفاً من الليرات. وقد يظنُّ القارئ أنني ضعيف بمادة الحساب – الجمع والضرب- إلا أنه يتأكد من مهارتي في الحساب حين يعلم أن حفلات المولد في هذه القرية الكبيرة التي يُذبح فيها الخرفان كثيرة، ويتفنن أهلها في اختلاق المناسبات، فلا بدّ من المولد حين يزورها ضيف أو يشفى مريض أو يعود بعض شبابها في إجازة من خدمته العسكرية أو المناسبات الدينية.ولا يقرأ الموالد إلا الشيخُ الإمام،وللشيخِ من كل ذبيحة بعضُ قطع اللحم يبيعها للشاوي الذي يفتح دكانه قرب المسجد، كما أن جلود الذبائح توضع في زاوية المسجد (للشيخ الإمام)، فإذا كثرت جاء من يشتريها من الشيخ، وكثيرٌ من زكوات القرية تصب في جيب إمامها، وفيهم عادةٌ كريمة: فقد يتبرع أحدهم بقطعة أرض تكون غلتُها هذه السنة للشيخ، فيحرثها ويبذرها ثانٍ، ويحصدها ويشتري قمحها ثالثٌ، ويصل المال للشيخ وهو لا يدري أيه قطعة كانت فائدتها للشيخ ذلك العام.تمنّيتً يومها أن أكون إماماً في مثل هذه القرية...

جاءني الشيخ ظهر أحد الأيام قبل بدء الحصة الأخيرة يطلب أن أرافقه إلى مولد،إنّ صوتَ صاحبكم – وهو شابٌّ - جميلٌ، ينشد كلانا ونقرأ المولد في عشر دقائق ثم يبدأ الغداء. كان مدير المدرسة من أهل القرية فخرج معنا، وكان الغداء أرزاً مرقتُه الباتنجان مطبوخاً بحمض السُمّاق، و(كراديش اللحم) تزيّن الأواني فهمس الشيخ في أذني أن آكل (كردوشة أو اثنتين) فالمولد الثاني بعد سويعة (لحمٌ مَشويٌّ).فالتزمت أمرَه، وأمرٌ كهذا يُطاعُ بديهةً!، وكان مدير المدرسة يتعجب من زهدنا في الطعام ويقول في نفسه: كأنّ هذين الشيخين ليسا من عشاق اللحم!

وخاب ظنّه حين قمنا بعد قليل مسرعَين فلحق بنا إلى المولد الثاني،فافتتحنا المولد بالقرآن و أنشدْنا،ثم جاءت الصواني تحمل الشواء الساخن فنلنا منه ما نال الغريمُ من عدوّه!،وصاحبُنا مدير المدرسة ينظر إلينا مُغضباً، فلم يكلمنا ثلاثة أيامٍ،صالحناه بعدها بمولد آخر!.

كنت في السادسة والعشرين إذ ذاك أسكن عند (أبي محمد) في الخامسة والستين من عمره،له زوجة صالحة فوق الأربعين وطفلة في السادسة من عُمرها، أنجبت زوجُه الأولى ثلاث نساء تزوّجن قبل موتها، وكان يودُّ أن يُرزق ذكَراً فلم يحْظّ بذلك، فالأولاد رزق من الله وحظ،كنتُ أدفع له في الشهر ثلاثين ليرة، وكانَ يناديني إلى الفطور قبل ذهابي إلى المدرسة وينتظرني ظهراً على الغداء ولا يتعشى إلا إذا شاركتُه، فأقول له: ها أنت تقدّم لي ضعف ما أدفعه، فيجيب: ملأتَ عليّ البيتَ يا ولدي،المالُ ذاهبٌ، والصحبة الحسنة ذخرٌ، وكنا نذهب إلى المسجد معاً،ونزور أهله وأصدقاءه ومعارفي الجدُدَ معاً، وكثيراً ما كنت أصلي إماماً في المسجد الوحيد إذ ذاك، وأقدِّم بعضَ المواعظ: أحاديثَ شريفة أو شرحاً لآيات كريمة أو بعض اللقطات من سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم،وكانت أمُّ حمامة (زوجته الفاضلة) كريمة مثله " إن الطيور على أشكالها تقع" ألم يقل الله تعالى " والطيبات للطيبين والطيّبون للطيبات"؟ فتوطدت علائقي بالناس.

سهرتُ ليلة في ضيافة آل عبيدات أحدثهم عن تاريخ المسلمين وفتحِ خالدٍ رضي الله عنه لمدينة لحلب وقنّسرين(العيس)غرب الحاضر بخمس كيلومترات تقريباً وغربَ حلب بعشرين كيلو متراً تقريباً فقلت:

فتح خالد رضي الله عنه قنّسرين سِلماً،وترك فيها حماية من ثلاث مئة جندي،وقفل عائداً فلمّا وصل معرّةَ النعمان وصله أنّ قائداً للروم واسمُه(ماني) وصل إلى قنّسرين ومعه أكثرُ من ثمانية آلاف فارس ففتح له أهل المدينة في غفلة من الحرس المسلمِ أبوابَها، فقتل الحرسَ جميعاً، فرجع خالد رضي الله عنه بجيشه،وكان زُهاء أربعة آلاف ليقضي قضاء مبرماً على جيش الروم في ساحة كبيرة شرق قنسرين تُدعى (الحاضر) ووقف أمام حصن قنّسرين يقول لأهلها قولته المشهورة المدوّية في أذُن التاريخ:" والله لو كنتم في السماء لرفعنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا، لقد جئتُكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، أو قال كما تحبون شربَ الخمر"، وفتحوا له الأبواب حين رأوا الإبادة السريعة لجيش الروم، لقد فزعت قلوبُ أهل الحصن وفتحوا أبوابه أذلاء صاغرين، فقتل الخونة من أهله،وهدّم حصونه كي لا تُسوّل لهم أنفسهم أن ينقضوا عهدهم كرّة اخرى.

قام ضائفي آخذاً بيدي إلى غيضة أمام بيته قائلاً: لقد أزلتَ يا أستاذُ إبهاماً لم نعرفْ حلّه منذ عشرين سنة. قلتُ ما هو؟ قال: في هذا المكان رغبنا أن نحفر بئراً يتوسط بيوتَنا فلما وصلنا إلى عمق متر ونصف أو مترين وجدنا قبراً يضم رجلين لباسُهما عربي، غير أن ثوبيهما (دشداشتيهما) قصيران إلى الركبة، ويلبسان عمامتين،نزَفُ جرحُ أحدهما حين حركناه، وكان وجه الآخر نضِراً،وامرأة بدَتْ كأنها نائمة ليس غير. ولعلّهم من شهداء تلك المعركة..قلتُ هذا لباس العرب، قصير تحته سراويل ليسهل عليهم ركوب الخيول.

ألف وأربعُ مئة سنة تمُرُّ على استشهادهم وهم على ما ماتوا عليه!!.. رحمهم الله ورحم شهداءَنا..

اللهم أنت ناصر المستضعفين ومؤيد المجاهدين..انصرنا واشف صدور قوم مؤمنين وأذهب غيظ قلوبهم، وأرِنا في عدوِّنا وعدوِّك يوماً كيوم عاد وثمود...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين