موقفُ الإسلام من المُستغلين

 
العلامة: محمود شلتوت
 حالة المُجتمع قبل الإسلام:
نظَّم الإسلام التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة، ولم يترك صغيرةً ولا كبيرة إلا وتناولها بما يُرسي قواعدها، ويُقرِّر أصولها وفروعها.
وإكمالاً للصورة التي رسمها الإسلام للمجتمع الفاضل المُتكامل يجب أن نبيِّن كيف واجه الإسلام عيباً من عيوب المُجتمع التي جاء والناس عليه. ولا يمكن مع وجوده في أمة أن يتأتى لمجتمعها تحقيق التكافل بين أفراده، وذلكم هو : (استغلال حاجة المحتاج).
 
وحتى ندرك أثرَ الإسلام في تخليص المجتمع من هذا العيب الخطير على بناء الجماعات وتكوين الأمم، أقدِّم استعراضاً عن حالة المجتمع قبل الإسلام، ثم أتلوه ببيان موقف الإسلام من علاج هذا العيب، وكيف تغلَّب عليه بفضل العقيدة الرشيدة والإيمان العميق اللذين تمتع بهما المسلمون الأولون.
 
فقد جاء الإسلام وقلوب الناس فارغة من معاني الرحمة والتعاون، لا يحمل قادرهم كلهم، ولا يساعد موسرهم معسرهم، بل يأكل قويهم ضعيفهم، ويستغلُّ غنيهم فقيرهم، دون أن يكون للقادر أو الغني من ميزة إلا أنَّه ذو عافية أو مال، ولا ذنب للعاجز أو الفقير سوى أنَّ ظروف حياته لم تهيئ له الصحة الكاملة، أو موارد الغنى الكافية، وسبل الكسب الطيب.
 
في هذا الجو المظلم كان جشعُ الأغنياء والقادرين يتفتق كل يوم عن حيلة يمتصون بها أموال الفقراء، ويعتصرون دماء الضعفاء، حتى لم يبقَ للطبقات العاجزة والمحرومة إلا أن تستسلم للأمر الجاري أو تثور عليه، وأنَّى لها بالثورة وقد قلَّم الاستغلالُ أظفارها، وسلَّ منها جميع إمكانياتها.
 
أ ـ فالمقرض في معاملته للمقترض كان لا يكتفي باستيفاء الأصل، إذا اضطرَّ المقترض إلى تأجيل السداد عن موعده، بل كان يُضيف إليه زيادة في مقابل التأخير، وتتضاعف هذه الزيادة كلما تكرَّر عجز المدين عن السداد في الموعد المحدد.
 
ب ـ وربُّ العمل، كان يبخس العمالَ أجورهم، فضلاً عمن يسخرهم في عمله، من العبيد والأرقاء، الذين كان يضن عليهم حتى بضروريات الحياة الإنسانية، ليظلوا مُسخرين لأمره و نهيه.
 
جـ ـ و المحتكر، كان يتحكم في الأقوات‏ والأرزاق، يحبسها عن الأسواق حتى يشتد الطلب عليها، بعد قلة المعروض منها، و من‏ ثم يتسنى له أن يبتز ما شاء من أموال الناس‏ بالباطل، استغلالا لحاجتهم مع قلَّة حيلتهم.
وهكذا عن صور الجَشَع الذي يَرمي إلى جمع الأموال من دماء المحتاجين والضعفاء و تكديسها.
 
و بذلك نشأت الرأسمالية الطاغية، التي‏ مزَّقت الصلات الإنسانية شر ممزق وجعلت‏ أفراد المجتمع أشبه بحيوان الغاب، الغني‏ يطمع، فيفترس الفقير، والقوي يتجبر، فيسخر الضعيف.
 
والفقير والضعيف يحقدان‏ فيتربصان الدوائر بالغني والقوي، ويفترصان‏ الفرصة للانقضاض عليهما.
 
و كان من آثار ذلك أن شاعت في مُجتمع‏ ما قبل الإسلام السوءات الآتية:
أولاً: اعتصار الفقير لحساب الغني، مما زاد الفقير فقراً، وراكم على أموال الغني‏ أوزاراً فوق أوزاره.
 
ثانيا: طغيان الغني وزيادة قوته، حتى‏ كان من الفرد الواحد أو من الجماعة الرأسمالية دولة أو دويلات تُناهض سلطان‏ ولي الأمر، وتهدد الأمن والاستقرار، بما تملكه من مال فائض تسخره في الطغيان، وصدق الله العظيم إذ يقول: [كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى] {العلق: 6} .
 
وما أروع التعبير في الآية بقول الله تعالى: [أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى] {العلق: 7} تعليلاً للطغيان، ذلك أن‏ الغنى أمر نسبي، يختلف من إنسان إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، ومن زمان أو مكان عنه في غيرهما. كما أن الإنسان قد يكون‏ بالنسبة لغيره غنياً، لكنه لا يرى نفسه قد اغتنى بعد، فيظل له سلوكه الهادي‏ء المسالم، حتى إذا ما وصل إلى درجة رأى نفسه فيها أنه قد اغتنى، فإن أعراض الشراسة والاستعلاء تأخذ سبيلها إلى تصرفاته، و من‏ ثم يسير حثيثاً نحو الطغيان.
 
و من هنا ربط القرآن الكريم طغيان‏ الإنسان، بمجرد ظنه و تقديره أنَّه استغنى، باعتبار ذلك هو القدر المُشترك الصادق في كل‏ تلك الحالات.
وليس في أقوال البشر شي‏ء من الشمول في‏ وصف الآثار السيئة على النفس البشرية، حين تمتحن بوفرة المال، كهذا الذي عبَّر عنه القرآن.
 
ثالثا: استغلال حاجة المحرومين، وهم‏ سواد الناس، وامتصاص جهود الكادحين، وهم جمهرة الأمة، مما ترتب عليه ضعف‏ الجماهير الذين هم قاعدة التنظيم الاجتماعي، ومن ثم اهتز البناء الاقتصادي، لضعف‏ الطاقة التي هي أغلبية المشردين والمستهلكين‏ والعاملين في مجالات الإنتاج، والذائدين عن‏ الحياض والساهرين على أمن الدولة.

ولاشك أنَّ إرهاقهم بهذا الاستغلال الجشع‏ هو إخلال بثبات القاعدة الشعبية التي يجب‏ أن تتلقى العون لا أن تستثمر وتستغل.
 
رابعا: تزعزع العقيدة، فالغني كان يطغيه‏ سلطان المال وكثيرا ما نجح في فرض مشيئته‏ على العامة بالاسترهاب أو شراء الذمم، و بتكرار فرض مشيئته نسي أنه بشر تافه‏ زائل، وحاكى قارون في غروره عندما قال: [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي] {القصص:78}  لما أتاه الله‏ من الكنوز: [مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ] {القصص:76} .
والفقير يطول انتظاره وصبره، مع تزايد البلوى عليه، كان يئن، فيما بينه و بين نفسه‏ المكلومة، حتى ليتساءل أين عدل الله!
 
خامسا: فساد المجتمع، لسيطرة الروح‏ المادية المسرفة، فالغني كان يغري بفيض ماله‏ المتزايد، والفقير كان يضطر تحت وطأة الحاجة للتفريط، فهانت الأعراض وانحلت الأسر.
 
سادسا: شيوع الخوف في جميع الطبقات، فالضعيف المحروم كان غير آمن على رزقه‏ حيث لم تكن المعاملة بين الناس قائمة على الفضل والعفو والصدقة.
 
والقوي الغني‏ الغاصب كان يعيش في خوف على ماله الذي‏ يجمعه بالاستغلال غير المشروع.
 
سابعا-استنبات الجريمة بخلق أسبابها، فالمحروم حاقد، والمبطون بائس حتى لا تدور عليه الدوائر.
 
كيف واجه الإسلام حاجة المحتاج:
جاء الإسلام والناس على هذا الوضع‏ السيئ فأفرغ جهده في القضاء على منابع الشر وأخذ بمبادئه الحكيمة يزيل الحواجز التي‏ قطعت ما بين الناس من صلات التراحم‏ والتعاون والسبر والإحسان، وأخذ يبني‏ المجتمع بناءا واحداً مُتماسك اللبنات متضام‏ الوحدات.
 
وقد واجه الإسلام علاج هذا الوضع‏ السيئ من ناحيتين:
أولا: من الناحية الايجابية:
 
1 ـ وضع تشاريع التكافل الاجتماعي‏ التي سبق أن بينا كيف حتم الإسلام‏ ضرورة الأخذ بها و العمل في نطاقها.
 
ب ـ طالب كل فرد من أفراد المُجتمع‏ بالعمل على تحصيل رزقه الذي يكفي حاجته، ويوفر له حياة نفسية كريمة هادئة.
 
جـ ـ أشعر الأغنياء الذين آتاهم الله من‏ ماله أنَّ هذا المال، و إن كان معقوداً في ملكيته‏ بأسمائهم، إلا أنَّ حقَّ الانتفاع به مُشترك‏ بينهم وبين إخوانهم الفقراء الذين يكونون‏ المُجتمع معهم، وراحته من راحتهم، واضطرابه من اضطرابهم، كما هو مشترك‏ بينهم وبين المصالح العامة التي تحتاج إليها الجماعة، في راحتها واستقلالها وإدارة شؤونها والدفاع عن حرماتها و كيانها.
 
د ـ ونتيجة لهذا كلفهم بمدِّ يد المعونة.
 
1-إلى الفقراء والمساكين وأرباب‏ الحاجات؛ إما بالبذل أو بتهيئة العمل.
2- وإلى أولياء الأمور؛ بما يمكنهم‏ من إقامة المصالح العامة التي تحقق خير الجماعة.
 
هـ ـ قرَّر أن تجري المعاملات بين الناس‏ على أساس واحد يَنتظمها جميعاً- مهما اختلفت صورها - وهو الانسياب إلى الخير، الذي تشيع في جوانبه الرحمة، ويحقق التعاون؛ بين الفرد والفرد، وبين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والدولة، بحيث يكون جوهر المعاملات هو إعطاء كل ذي حق حقه، ورحمة الضعيف، واقتضاء حق المُجتمع‏ من المُقتدر.
 
ثانيا: من الناحية السلبية:
حرَّم الربا والرشوة والشح والبخل، ونهى عن الإسراف والترف والتبذير، وحذَّر من الضن بحق الفقير والمسكين.
 
صورتان مُتقابلتان:
ولإظهار التفاوت بين هاتين الناحيتين، الإيجابية والسلبية، اللتين واجه بهما الإسلام‏ استغلال حاجة المجتمع - قابل القرآن الكريم‏ في كثير من آياته بينهما، ووضع أمام‏ الأبصار صورة مُضيئة هي صورة التراحم‏ والتعاطف والتعاون المطلوبة وجعل شعارها البذل والإنفاق.
 
وفي الجهة المقابلة وضع صورة مظلمة هي‏ صورة الجشع والقسوة والأنانية الممقوتة، كي يمعن الناظرون في الآثار الطيبة لصورة التراحم والتعاطف والتعاون، وفي الآثار السيئة لصورة الجشع والقسوة والأنانية، فيكون لهم - من هذا الوضع- ما يردهم عن‏ احترام صورة الجشع والقسوة والأنانية إلى احترام صورة التراحم والتعاطف والتعاون. وبذلك تتحقق إنسانيهم الفاضلة، و يسيرون‏ في الحياة بخطوات متزنة في البناء والتشييد، فتسمو بهم الحياة التي ينعمون بها.
 
ومن هنا لا تكاد تجد، في القرآن الكريم‏ آية من آيات الإعلاء من شأن البذل والمعونة والتراحم، إلا وبجانبها آية من آيات التحذير عن الشح والجشع والأنانية، وإن شئت‏ فاقرأ قول الله تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ(263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ(264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)]. {البقرة}. .
 
وهكذا تتوالى الآيات على هذا النسق إلى قوله تعالى بعد ذلك‏ في نفس السورة: [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] {البقرة:276}.
 
وأقرا أيضا: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {آل عمران:132} .
 
ثم اقرأ في مقابلة ذلك قوله بعد ذلك‏ مباشرة: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:134} .
 
واقرأ كذلك قوله تعالى: [فَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الرُّوم:38} .
 
اقرأ هذا كله بعين البصيرة، و تدبَّره بروح الإيمان الصادق، لتعرف‏ الهدف الذي لأجله حرَّم القرآن الربا، وأكل‏ أموال الناس بالباطل، وسد أبوابه و أحكم‏ سدَّها على أهله وأتباعه، وشهر بآكليه أشنع‏ تشهير حين قال فيهم:
[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:275} .
 
ثم دعاهم إلى تركه، وحذَّرهم من التمادي فيه‏ بقوله:
[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:275} .
 
ثم توعَّد من لا يستجيبون إلى دعائه أشدَّ الوعيد فقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {البقرة:278} .
 
ثم نظَّم تصفية الأوضاع الربوية القائمة بقوله: [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ] {البقرة:279} .
 
نموذج سمح كريم:
وفي هذه الآية نموذج سمح كريم لما يجب‏ أن يكون عليه سلوك الدائن مع المدين بالنسبة لاقتضاء دينه منه، قدَّمه الله بقوله: [وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:280} . فالله يوصينا بإمهال المدين المعسر حتى يصيب‏ يسراً يمكنه من سداد دينه.
 
لكنا إذا تأملنا قوله تعالى: [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:280} فإننا نجد نموذجاً إنسانياً فوق ما يخطر على البال من معاني الترابط بين‏ الناس، في سبيل إصلاح الجماعة، يقدمه‏ الإسلام، ويغري به، ويقيم عليه الدليل. فالله تعالى، بهذه الآية، يريد أن يقول: إنَّ‏ الدائن حين يعلم من أمر مدينه عسراً و عجزاً، فإنَّ الإمهال وحده لا يسمو بتصرف الدائن‏ إلى ما يوصي به الرحمن من صور المعاملات‏ الخيرة بين للناس. وإنما يحسن الدائن صنعاً إذا هو ترك الدين وتصدق به على المدين.
 
ثم ينبه إلى أنَّ هذا خير للمجتمع... ذلك‏ أنَّ المجتمع الذي يَتَراحم فيه الناس حتى تصل‏ المعاملات بينهم إلى هذا المستوى الإنساني‏ النبيل، لا يبقى فيه حاقد أو ناقم يفكر في انقلاب أو انتقاض.
 
أفرأيت إلى مُجتمع هذا شأنه، هل تتخلف‏ فيه الجماهيرُ عن نصرة القوي ونجدته إن حلَّت‏ به كارثة، أو نزلت به نازلة، كأن تحترق‏ له دار أو تغرق له زراعة، كما يحدث في الريف‏ كثيرا، حيث لا تتوافر أجهزة الإطفاء، ولا وسائل مقاومة السيول؟
 
هدف الإسلام من بناء مجتمع إنساني فاضل على هذه الأسس والمبادئ التي تقتضيها الأخوة والتراحم والتعاون والاشتراك‏ في الإحساس وتبادل الشعور بين الأفراد، بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الدولة - امتلأ القرآن الكريم، في مكيه ومدنيه، بآيات‏ الحث على الإنفاق في سبيل الله، وقضاء الحاجات التي تطرأ على الأفراد فتوهن‏ من قوتهم، وتضعف من روحهم، وتجعل‏ القلق يسيطر عليهم في الحياة، حين يرون‏ إخوانهم الأغنياء يتمتعون بالأموال في سعة واقتدار، مما يضاعف همهم. و قد يفتح لهم‏ أبوابا من الشر و الفتنة يمكرون بها على الجماعة صفو حياتها، ويزلزلون عليها عناصر الأمن‏ والاطمئنان.
 
وعلى هذا الوضع الذي سقنا طرفاً منه، سارَ الإسلام في بناء المجتمع الإسلامي الفاضل، حتى تتفاعل وحداته بإحساس واحد واتجاه‏ واحد فيكون كالجسد الواحد إذا اشتكي منه‏ عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وكاليدين تغسل إحداهما الأخرى.
 
ولا شك أنَّ رأس المال إذا استخدم‏ مراعى فيه تلك العلاقات الإنسانية التي شرعها الإسلام للتعاون بين الناس، فإنَّه لا يصبح‏ ذا قوة أو سيطرة على المجتمع، ولا يصبح‏ صاحب المال ذا استغلال أو إقطاع فيه،‏ ومن ثم يكون أفراده كالبنيان يشد بعضه‏ بعضا، و ليس غير هذا المجتمع يريد الله.
 
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


مجلة الأزهر، شوال (1381هـ) العدد: 213 .
 


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين