يصف القلقشندي في كتابه الماتع صبح الأعشى في صناعة الإنشا مواكب الخلفاء الفاطميين في العيد في القاهرة وما كان يصاحبها من أبهة واستعدادات، وأرجو من القارئ الكريم أن يقرأ هذه السطور على مهل، ويعجب بدقة القلقشندي في وصف التفاصيل بدقة ووضوح، فكأنه يرسمها بريشته، ثم تخيل هذه المواكب بعظمتها الغابرة وبهائها العظيم، وما يتحدث عنه القلقشندي هو أنموذج لمواكب الخلفاء عموماً في كل البلاد الإسلامية وعلى مختلف العصور، يقول القلقشندي:
الموكب الرابع: ركوب الخليفة لصلاة عيدي الفطر والأضحى
أما عيد الفطر فيقع الاهتمام بركوبه في العشر الأخير من رمضان، وتعبى أُهبة المواكب على ما تقدم في أول العام وغيره، وكان خارج باب النصر مصلى على ربوةٍ وجميعها مبني بالحجر، ولها سور دائر عليها وقلعة على بابها، وفي صدرها قبةٌ كبيرة في صدرها محراب، والمنبر إلى جانب القبة وسط المصلى مكشوفاً تحت السماء، ارتفاعه ثلاثون درجة وعرضه ثلاثة أذرع، وفي أعلاه مصطبةٌ.
فإذا كمُل رمضان، وهو عندهم - أي الفاطميين - ثلاثون يوماً من غير نقص، وكان اليوم الأول من شوال، سار صاحب بيت المال إلى المصلى خارج باب النصر، وفرش الطراحات بمحراب المصلى، كما يُفعل في الجوامع في أيام الجُمع، ويعلِّق سِترين يُمنةً ويَسرة، وفي الأيمن الفاتحة وسبح باسم ربك الأعلى، وفي الأيسر الفاتحة، وهل أتاك حديث الغاشية، ويَركُز في جانبي المصلى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة، وهما منشوران مرخيان، ويوضع على ذروة المنبر طراحة من شاميات أو دبيقي، ويفرش باقي درجاته بستر من بياض، على مقداره في تقاطيع درجة مضبوطة لا تتغير بالمشي وغيره، ويجعل في أعلاه لواءان مرموقان بالذهب يمنةً ويسرةً.
ثم يسير الوزير من داره إلى قصر الخليفة، ويركب الخليفة بهيئة المواكب العظيمة على ما تقدم في أول العام: من المظلة والتاج وغير ذلك من الآلات، ويكون لباسه في هذا اليوم الثياب البيض الموشحة المجومة، وهي أجلُّ لباسه ومظلته كذلك، ويخرج من باب العيد على عادته في ركوب المواكب إلا أن العساكر في هذا اليوم من الأمراء والأجناد والرُكبان والمشاة تكون أكثر من غيره، وينتظم القوم له صفين من باب القصر إلى المصلى، ويركب الخليفة إلى المصلى فيدخل من شرقيها إلى مكان يستريح فيه دقيقةً، ثم يخرج محفوظاً بحاشيته كما في صلاة الجُمَع فيصير إلى المحراب، والوزير والقاضي وراءه كما تقدم، فيصلي صلاة العيد بالتكبيرات المسنونة، ويقرأ في الركعة الأولى ما في الستر الذي على يمينه، وفي الثانية ما في الستر الذي على يساره.
فإذا فرغ وسلم، صعد المنبر لخطابة العيد، فإذا انتهى إلى ذروة المنبر، جلس على تلك الطراحة بحيث يراه الناس، ويقف أسفل المنبر الوزير، وقاضي القضاة، وصاحب الباب والاسفهسلار - وهو مصطلح يعني مُقدّم العسكر - وصاحب السيف، وصاحب الرسالة، وزمام القصر - أي مدير ماليته - وصاحب دفتر المجلس، وصاحب المظلة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب بيت المال، وحامل الرمح، ونقيب الأشراف الطالبيين
ويكون وجْهُ الوزير إليه فيشير إليه فيصعد ويقرب وقوفه منه ويكون وجهه موازياً رجليه فيقبلهما بحيث يراه الناس، ثم يقوم فيقف على يمنة الخليفة، فإذا وقف أشار إلى قاضي القضاة بالصعود يصعد إلى سابع درجة، ثم يتطلع إليه منتظراً ما يقول، فيشير إليه فيخرج من كمه دَرْجاً قد أُحضر إليه في أمسه من ديوان الإنشاء بعد عرضه على الخليفة والوزير، فيجهر بقراءة مضمونه ويقول بعد البسملة: ثَبْتٌ بمن شُرِّفَ بصعود المنبر الشريف في يوم كذا، وهو عيد الفطر من سنة كذا من عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، بعد صعود السيد الأجل .... يذكر نعوت الوزير المقررة والدعاء له ثم ذكر من يشرفه الخليفة بصعود المنبر من أولاد الوزير، ثم يذكر القاضي ولكنه يكون هو القاريء للثبت فلا يسعه ذكر نعوته فيقول: المملوك فلان بن فلان ونحو ذلك، ثم الواقفين على باب المنبر ممن تقدم ذكره بنعوتهم واحداً واحداً، وكلما ذكر واحداً استدعاه وطلع المنبر، كلٌ منهم يعرف مقامه في المنبر يمنةً ويسرةً.
فإذا لم يبق أحد ممن أطلع إلى المنبر، أشار الوزير إليهم فأخذ كل من هو في جانب بيده نصيباً من اللواء الذي بجانبه فيستتر الخليفة ويستترون، وينادى في الناس بالإنصات، فيخطب الخليفة خطبة بليغةً مناسبة لذلك المقام، يقرؤها من السفط الذي يُحضر إليه مسطراً من ديوان الإنشاء كما فعل في جُمَع رمضان المتقدمة.
فإذا فرغ من الخطبة، ألقى كلُّ مَنْ في يده شيءٌ من اللواء خارج المنبر، فينكشفون وينزلون القهقرى أولاً بأول الأقرب فالأقرب، فإذا خلا المنبر للخليفة، هبط ودخل المكان الذي خرج منه، فيلبث قليلاً ثم يركب في هيئته التي أتى فيها إلى المصلى، ويعود في طريقه التي أتى منها.
فإذا قرب من القصر، تقدمه الوزير على العادة، ثم يدخل من باب العيد الذي خرج منه، فيجلس في الشباك الذي في الإيوان الكبير، وقد مد منه إلى فسقية في وسط الإيوان مقدار عشرين قصبة سماطٌ فيه من الـخُشكنان - الكعك - وغير ذلك مما يعمل في العيد مثل الجبل الشاهق، كل قطعة ما بين ربع قنطار إلى رطل واحد، فيأكل من يأكل وينقل من ينقل لا حَجْر عليه ولا مانع دونه، ثم يقوم من الإيوان فيركب إلى قاعة الذهب فيجد سرير الملك قد نصب، ووضع له مائدة من فضة، ومد السماط تحت السرير فيترجل عن السرير، ويجلس على المائدة، ويستدعي الوزير فيجلس معه، ويجلس الأمراء على السماط ولا يزال كذلك حتى يُنقضَ السماط قريب صلاة الظهر؛ ثم يقوم وينصرف الوزير إلى داره والأمراء في خدمته فيمد لهم سماطاً يأكلون منه وينصرفون.
وصفة سماط الفطر: يمد في عيد الفطر وعيد الأضحى تحت سرير الملك بقاعة الذهب المذكورة أمام المجلس الذي يجلس فيه الخليفة الجلوس العام أيام المواكب، وتنصب على الكرسي مائدة من فضة تعرف بالمدورة، وعليها من الأواني الذهبيات والصيني الحاوية للأطعمة الفاخرة ما لا يليق إلا بالملوك، وينصب السماط العام تحت السرير من خشب مدهون في طول القاعة في عرض عشرة أذرع، وتفرش فوقه الأزهار المشمومة، ويرص الخبز على جوانبه كل شابورة ثلاثة أرطال من نقي الدقيق؛ ويُعمر داخل السماط على طوله بواحد وعشرين طبقاً عظاماً، في كل طبق واحد وعشرون خروفاً من المشوي، وفي كل واحد منهما ثلثمئة وخمسون طيراً من الدجاج والفراريج وأفراخ الحمام، ويعبى مستطيلاً في العلو حتى يكون كقامة الرجل الطويل، ويسور بتشاريح الحلواء اليابسة على اختلاف ألوانها، ويسد خلل تلك الأطباق على السماط نحوٌ من خمسمئة صحن من الصحون الخزفية المترعة بالألوان الفائقة، وفي كل منها سبع دجاجات من الحلواء المائعة والأطعمة الفاخرة؛ ويعمل بدار الفطرة قصران من حلوى زنة كل منها سبعة عشر قنطاراً في أحسن شكل، عليها صور الحيوان المختلفة، ويحملان إلى القاعة فيوضعان في طرفي السماط.
ويأتي الخليفة راكباً فيترجل على السرير الذي قد نصبت عليه المائدة الفضة، ويجلس على المائدة وعلى رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنكين، ثم يستدعي الوزير وحده فيطلع ويجلس على يمينه بالقرب من باب السرير، ويشير إلى الأمراء المطوقين فمن دونهم من الأمراء، فيجلسون على السماط على قدر مراتبهم فيأكلون، وقراء الحضرة في خلال ذلك يقرأون القرآن، ويبقى السماط ممدوداً إلى قريب من صلاة الظهر حتى يُستهلك جميع ما عليه أكلاً وحملاً وتفرقةً على أرباب الرسوم.
وكان للخلفاء الاهتمام العظيم بمائدة الفطر والأضحى، وأصنافها كانت: ألف حملة دقيق، وأربعمئة قنطار سكر، وستة قناطير فستق، وأربعمئة وثلاثين إردَبَّ زبيب، وخمسة عشر قنطاراً عسل نحل، وثلاثة قناطير خل، وإردبّين سمسم، وإردبين أنيسون، وخمسين رطلاً ماء ورد، وخمس نوافج مسك، وكافور قديم عشرة مثاقيل، وزعفران مطحون مئة وخمسون درهماً، وزيت برسم الوقود ثلاثون قنطاراً، وأصناف أخرى يطول ذكرها.
وأحيل القراء المهتمين أو المتخصصين إلى دراسة قيمة ومستقصية وممتعة قامت بها الدكتورة البحاثة محاسن محمد الوقاد بعنوان: المراسم الفاطمية - البيزنطية، دراسة مقارنة. ونشرتها حولية التاريخ الإسلامي والوسيط في قسم التاريخ بجامعة عين شمس، المجلد الخامس سنة 2006-.2007.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول