مواقف وعِظات مِن جبل الرُّماة

مواقف وعِظات مِن جبل الرُّماة

 

رابطة خطباء الشام

مقدمة:

بين يدينا سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم نستفيد منها، موردٌ لا ينقطع للدّروس والعبر، يردها الظّمآن فلا يرجع إلا بريٍّ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

قيل هذا تعقيبًا على ما كان في غزوة الأحزاب مِن تآلبٍ وتكالبٍ على أهل الحقّ، فترى أنّ السّورة توجّهنا صراحةً إلى التّأسّي بسيّد البشر صلى الله غليه وسلم، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].

وهكذا كانت سيرته صلى الله عليه وسلم فيها كلّ الأطوار الّتي يمكن أن تمرّ بها الدّعوة الإسلاميّة، ففيها حال الاستضعاف في مكّة؛ يوم {قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النّساء: 77].

وفيها مرحلة القتال والغزوات المدنيّة، وفي الغزوات نصرٌ كنصر بدرٍ والصّحابة قلّةٌ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 123-125].

وفيها يوم حنينٍ عندما ولّى مَن ولّى مدبرًا {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} [التّوبة: 25-26].

النصر الأولي

أدار النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بدرٍ الكبرى الحسام على كفّار مكّة؛ حتّى ألقى صناديدهم في القليب، فضرب الكفّار موعدًا لاستئناف الحرب بين معسكر الحقّ ومعسكر الباطل بعد سنةٍ، ولمّا استدار العام واكتمل حشدت قريش باطلها وسعت إلى المدينة مركز النّور، فاستشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّحابة في شأنهم؛ هل يخرج إليهم فيقاتلهم خارج المدينة! أم يتحصّن فيها ويقاتل منها عليها! فأشار الشّيوخ عليه بالبقاء، وأشار مَن لم يحضر بدرًا -متحمّسًا- بالخروج، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي مَن رأى الخروج ولبس لأمته، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ب، قَالَ: اسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  النَّاسَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: (إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي لَفِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَكَأَنَّ بَقَرًا تُنْحَرُ وَتُبَاعُ فَفَسَّرْتُ الدِّرْعَ الْمَدِينَةَ وَالْبَقَرَ نَفَرًا وَاللهُ خَيْرٌ، فَلَوْ قَاتَلْتُمُوهُمْ فِي السِّكَكِ فَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْحِيطَانِ) قَالُوا: فَيَدْخُلُونَ عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ مَا دُخِلَتْ عَلَيْنَا قَطُّ وَلَكِنْ نُخْرُجُ إِلَيْهِمْ قَالَ: (فَشَأْنُكُمْ إِذًا) قَالَ: ثُمَّ نَدِمُوا فَقَالُوا: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  رَأْيَهُ، فَأَتَوَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأْيُكَ فَقَالَ: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ ثُمَّ يَضَعُهَا حَتَّى يُقَاتِلَ). [ السّنن الكبرى للنّسائيّ: 7600 ]

ثمّ اتّجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جبل أحدٍ، وفي الطّريق انخذل المنافقون بثلث الجيش يزعمون أنّهم غير راضين على الخروج مِن المدينة، ثمّ جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121].

والتحم القتال وصدق الله جنده وعده {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152].

ودارت الدّائرة لأهل الحقّ على أهل الباطل، وكان فيمَن بوّأه النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقعد القتال رماةٌ على جبل الرّماة أمرهم ألّا يبرحوه ولو رأوا الّطير تتخطّف جند المسلمين، فلمّا رأوا انشمار جيش الكفّار عن مواقعه ظنّوا أنّ الأمر حُسم، فنزل منهم مَن نزل عن الجبل ليجمع الغنائم، وليشارك في فرحة النّصر، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرُّمَاةِ -وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا- عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ: (إِنْ رَأَيْتُمُ الْعَدُوَّ وَرَأَيْتُمُ الطَّيْرَ تَخْطَفُنَا، فَلَا تَبْرَحُوا)، فَلَمَّا رَأَوْا الْغَنَائِمَ قَالُوا: عَلَيْكُمُ الْغَنَائِمَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَبْرَحُوا). [ مسند أحمد: 18600 ]

سنزحزحُ اللّيلَ المعلقّ ريثما    نغتالُه واللّيلُ قد يتزحزحُ

سنكونُ أوّلَ ما نكونُ رصاصةً    بيضاءَ تومضُ في الجهاتِ وتمرحُ

سنظلّ في جبل الرّماة فخلفنا    صوت النّبيّ يهزّنا «لَا تَبْرَحُوا»

مِنكم مَن يريد الدُّنيا:

تغيّر منحى المعركة تمامًا لمّا نزل الرّماة عن جبلهم، وانشغلوا بالغنائم عن الأمر النّبويّ، وهذا فيه درسٌ عظيمٌ لنا أن نراعي أوامر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حياتنا وفي جهادنا وفي شأننا كلّه، لمّا حانت التفاتةٌ مِن خالد بن الوليد وكان يومها في المشركين ورأى خلوّ الجبل عن رماته التفّ إليه وأعمل السّيف فيمن بقي ثابتًا فيه، ثمّ دارت الدّائرة للكفّار على المسلمين وتغيّرت موازين المعركة {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 152-153].

الآية هنا صريحةٌ في أنّ البعض أراد الدّنيا، وإرادة الدّنيا نيّة لا يرتضيها الربّ لعباده، والربّ يربّي عباده بالبأساء والنّعماء، فأنزل بهم ما أنزل ليكون درسًا بليغًا ألّا يريدوا إلّا وجه الله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 18-20].

لكنّ الآيات تبيّن مقام الصّحابة، وأنّهم محلّ عفو الله وعنايته، فلا يقع فيهم لاحقًا لسان مبغضٍ أو حاسدٍ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].

ثمّ تبيّن الآيات حكمة الله البالغة ممّا حصل معهم يوم أحدٍ {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 166-168].

سبق أنّ المنافقين انخذلوا بثلث الجيش ابتداءً، ثمّ أعملوا لسانهم في المؤمنين يشمتون؛ يقولون: "لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا"، فبيّن الله عقيدة المسلمين في الموت وأنّه منوطٌ بالأجل، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النّحل: 61].

خاتمةٌ:

ما تزال غزوة أحدٍ وسائر غزوات النّبيّ صلى الله عليه وسلم موردًا لنا نرجع إليه كلّما احتجنا الدّروس والعبر، والدّرس الأهمّ الّذي نتعلّمه منها: أن نجاهد في سبيل الله وفق مراده، وألّا نقاتل لتحصيل المال الّذي عصمه الله، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ). [ صحيح البخاريّ: 25 ].

فالحديث هنا ينصّ على عصمة دم المسلم، فلا يجوز أن يعمل المسلم سلاحه في أخيه ليتسلّط على ماله أو ممتلكاته، بل ينبغي أن تكون الغاية ساميةً، لكنّ الحديث في الوقت نفسه يبيّن أن عصمة دم المسلم ليست مطلقةً، بل ربّ مسلمٍ أبيح دمه بحقّ الإسلام، كالباغي مثلًا، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].

فإذا رأيت مَن يبغي على المسلمين يريد أموالهم، فذكّره أن يتقي الله وأن يجاهد في سبيل الله لا في سبيل المال، وما رأيت مِن مسلمٍ يردّ البغي ويقاتل الباغي فاعلم أنّ قتاله مشروعٌ، وأنّه يقاتل الباغي بحقّ الإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين