مواقف في الابتلاء والمحن

تشهد بلاد الاسلام لاسيما سوريا في الآونة الأخيرة أحداثاً خطيرة ومتسارعة ، من غزو فكري ثم غزو عسكري ،وما نشأ عنه من صراع بين معسكر الايمان وبين معسكر الكفر والنفاق، وقد رافق ذلك تعارض في مصالح الدول الاقليمية والدولية ، ماجعل الارض السورية ملعبا يتبارى فيه اللاعبون،وحقل تجارب للآلة العسكرية المدمرة التي استهدفت كل شيء من حجر وبشر وحضارة ،وقد نال الشعب السوري من جراء ذلك من البلاء والتشرد والقتل والقمع والاهانة ما جعل القضية السورية مأساة كبرى على ألسنة الناس من مسلمين وغيرهم ،وأكثر القضايا العالمية حضوراً في الاجتماعات واللقاءات الرسمية اقليميا ودولياً، وقد وصف ما جرى في سوريا بأنه أسوأ ما شهدته البشرية في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية . 

ولا يعني ذلك أنه حدث تاريخي لن يتكرر، بل سبق أن واجهت الأمة ابتلاءات سابقة أشد مرارة وأبعد اثراً ، وهو ما سطره التاريخ وتناقلته الأجيال عبر القرون ، بل ربما يتكرر ذلك مستقبلاً طالما أن سنة الابتلاء الرباني ماضية في خلقه الى أن يرث الله الارض ومن عليها.

وتناولي لهذا الغزو والصراع انما هو في ضوء الابتلاء والتمحيص، وهي سنة ربانية تجري بآثارها بقدرة الله وحكمته ، وأعني هنا سنة تمحيص المؤمنين وتمييزالصفوف ، حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة ،وحتى يتعرف المؤمنون على ما في انفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الارض فيتخلصوا منها ، ويغيروا ما بانفسهم ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، فاذا تميزت الصفوف، وتساقط المتساقطون في أتون الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منهاوقد تخلصوا من الشوائب من خلال الانصهار في نار الفتنة وشدتها ، وحينئذ تهب رياح التغيير على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم أعداءهم ومن ثم يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، وقبل هذا التمحيص والتمييز فان سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله تعالى عباده المؤمنين لن تتحقق . 

وهكذا فان سنن الله في خلقه ماضية لاتتبدل ، وأن محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين ، ولذلك عندما سئل الامام الشافعي رحمه الله : أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فكان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله أن قال:لا يمكن حتى يبتلى"(ذكر هذا الأثر الامام ابن القيم في زاد المعاد 1/208)، ولعله فهم ذلك من قوله تعالى ( وليمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين ) أل عمران /141، فان الله تعالى ابتلىى نوحاً وابراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم .

وفي ضوء ما أصاب مجتمعاتنا الاسلامية من البلاء والنوازل والشدائد أود أن أعرض بعض المواقف التي أفرزتها هذه السنة الربانية وهي سنة الابتلاء والمحن ، وما كان لهذه المواقف أن تعرف على حقيقتها ولا يعرف أهلها لولا حصول ذلك ، وعندما أذكر هذه المواقف فهي من أجل أن يكون الانسان على بصيرة فيذكر أحدنا نفسه ، ويذكر اخوانه ان لا يقع في هذه الفتن ، ومن وقع فيها أن يخرج منها قبل فوات الأوان ، {والله غالب على امره ولكن أكثر الناس لايعلمون} يوسف/21 ومن هذه المواقف:

الموقف الأول :المنافقون والمرجفون 

النفاق داء عضال ينخر كيان الامم فيضعفها، لاسيما أثناء المحن والنوازل ،فهم عين العدو وذراعه ووسيلته لاختراق المجتمعات ، وقدعانى المسلمون من المنافقين وأراجيفهم ، فيوم الأحزاب وقد أحاط المشركون وحلفاؤهم بالمدينة ، ونقضت اليهود عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً ، وفي هذه الظروف الصعبة يظهر دور المنافقين والمرجفين والمعوقين المندسين في صف الأمة وداخلها، لكن الله فضحهم وكشف أسرارهم، بقوله: {واذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا } الاحزاب/12 . 

ونرى منافقي اليوم يكررون موقف المنافقين السابقين وهم يرون ما نزل بالمسلمين من بلاء وشدة ، ويرون اخوانهم من الصليبيين وقد أحاطوا بالبلاد ، فأعلنوا نفاقهم وما كانوا يخفونه في نفوسهم من قبل، فهم يكررون مقالات الاعداء الغزاة في الطعن بالمجاهدين ووصفهم بالارهاب ، كما يرددون مايقوله الغزاة في المخلصين والصادقين في الأمة من اتهام وتشكيك ، بل ان هؤلاء المرجفين يحرضون الغزاة على استئصال أهل الخير وهم يرون ما نزل بهم من بلاء وشدة ، ويعلنون شماتتهم ، ومساندتهم في تنفيذ مخططات الغزاة في تدمير العقيدة والاخلاق.(لاحظ ظهورالضفاضع ، والسحالي،والسلاحف وغيرها،وأثر ذلك على الامة ). 

ولم يقتصر دور المنافقين والمرجفين على مناصرة الغزاة فحسب ، بل ظهر نفاقهم من خلال ما أفصحوا عنه من مكنونات نفوسهم بما يطرحونه عبر وسائل الاعلام المختلفة من التشكيك في ثوابت الاسلام بل في أصوله القرآن والسنه ،من حيث ثبوت نصوصهما أو فهم الصحابة وأئمة الاسلام للنصوص الشرعية الثابتة ،وظهرت حملة قوية تشكك في أحكام القرآن القطعية، وفي حجية السنة ونقلتها من الصحابة ومن بعدهم كالامام البخاري وغيره.

ان ماحل بالأمة في الآونة الأخيرة من بلاء وتسلط الأعداء كان فاضحاً لهؤلاء المنافقين والمرجفين ، كما كان فاضحاً للعلمانيين، واللبراليين، والباطنيين، الذين أفصحوا فيها عن حقدهم وكراهيتهم للاسلام، واصطفافهم مع الأعداء الغزاة ومعسكرالطغاة .

الموقف الثاني موقف المحبطين والمخذلين واليائسين :

وذلك عندما يتعرض كثيرمن المسلمين في خضم المحنة للأذى من سجن وتعذيب وسفك للدماء ،وفقد للأولاد والأحباب ، وخراب للممتلكات ومقومات الحياة، وهدم للمساجد والمدارس، ومراكز العلاج من قبل هؤلاء الطغاة والكفرة الذين لا يرقبون في شعوبهم الاً ولا ذمة ، فان بعض المسلمين يشعرون باليأس والاحباط والخوف ،لاسيماعندما تضخم قوة الأعداء وأنها لاتقهر ، مع ازدياد المنكرات وانحراف الناس عن الحق وهنا نلمح فئتين من المسلمين :

فئة سيطر على نفوسهم اليأس من ظهور هذا الدين ، والتمكين لأهله ، وصار عندهم شيء من ضغف اليقين ومرض القلوب ، وبدأ الشك يتسرب الى نفوسهم في ظهور هذا الدين ، ويهتز يقينهم بوعد الله بنصر دينه ، وهؤلاء على خطر عظيم يهدد ايمانهم ، ومثل هؤلاء يخشى عليهم أن يقعوا في فتنة المنافقين الظانين بالله ظن السوء.

وفئة أخرى لم يساورها الشك في ظهور دين الله ونصر أوليائه ، وانما أصاب هذه الفئة اليأس من ذلك في هذا الزمان وهي ترى أن المسلمين اليوم غير قادرين على مواجهة العدو القوي، فلا داعي للمقاومة ، والحل عند هؤلاء الاستسلام للواقع أو اعتزاله بانتظار معجزة ربانية كظهور المهدي ، أو نزول المسيح عليه السلام، ولا يخفى مافي هذا التصور من انحراف يفرح العدو من المنافقين والكفرة .وان مواقف الاحباط واليأس ما كان ليظهر لولا سنة الابتلاء والتمحيص ، وفي ظهورها فائدة لأصحابها حتى يراجعوا أنفسهم ،ويقلعوا عن هذا الموقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السنة الربانية ، كما أن فيه فائدة لغيرهم ليحذروا من الوقوع في ذلك ، والله تعالى قد حذر المؤمنين من الوهن واليأس والاحباط فقال :{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين} آل عمران /139، فليس للشك والقنوط سبيل الى نفس المؤمن ، { انه لاييأس من روح الله الا القوم الكافرون } يوسف /87.

الموقف الثالث موقف الراكنين الى الدنيا اللاهثين وراء حطامها والمتنافسين عليها:

وهؤلاء لا هم لهم الا متاع الحياة الدنيا ، وأنفسهم وأسرهم ، وكيف يوفرون لهم من أصناف المتاع ومظاهر الدنيا الفانية ، وأما ما يتعرض له الدين وأهله من أذى وابتلاءات فلا يهمهم كثيراً طالما أن مساكنهم ومطاعمهم ومشاربهم ومتطلباتهم سالمة لهم ، وقد يسألون عن أحوال المسلمين بقلب بارد خلا من الغيرة والتفاعل مع آلام المسلمين ونصرتهم .ويحكي الله حال هؤلاء المتخاذلين وأمثالهم بقوله تعالى {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وان يات الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن انبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا الا قليلا} الاحزاب /20 .

الموقف الرابع المسايرون للواقع وأصحاب أوساط الحلول :

وأصحاب هذا الموقف نظروا الى ما يصيب المسلمين في هذه الأيام من الأذى والتضييق والابتلاءات فرأوا أن الثبات والصمود على ثوابت هذا الدين والصبر على أحكامه الشرعية ، ومصادمة الواقع مما يصعب في مثل هذه الظروف لأن أعداء الدين لا يرضون بذلك بل يوجهون حربهم الى هؤلاء الثابتين الذين يطلقون عليهم تارة الأصولية ، وتارة المتشددين وتارة الارهابيين ، والخطير في هذه المواقف الانهزامية أنها تغطى بشبه شرعية ، ويحاول أصحابها أن يؤصلوا ضعفهم ومواقفهم هذه بأدلة يزعمون أنها قواعد شرعية مع أنها غير منضبطة بضوابط الشرع ، ولا ملتزمة بمقاصده، كاستدلالهم مثلا بالضرورة وأحكامها ، وقواعد التيسير، ورفع الحرج ، وبالمصالح المرسلة وغيرها مما هي صحيحة في أصلها لكنها فاسدة في تطبيقاتها(انظر الرد على هذه الشبهات كتاب فاستقم كما امرت للشيخ عبدالعزيز ناصر الجليل).

وعلامة هؤلاء انهم يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالمعتدلين، أو التنويريين ، وما كان لهذه المواقف أن تعرف لولا سنة الابتلاء التي تميز وتمحص المواقف وصدق قول الله تعالى فيهم {ما كان الله ليذرالمؤمين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب} ال عمران /179 .

والمقصود أن سنة الابتلاء والتمحيص التي نعيشهاهذه الايام قد أفرزت مثل هده المواقف ولله الحكمة في ذلك ،لأن في ظهورها خيراً لأهلها لعلهم يحاسبون أنفسهم ويرجعون الى الحق قبل يوم الحساب ،كما أن فيها خيرا لغيرهم حتى يحذروها ويحذروا منها .

الموقف الخامس المتعجلون المغيرون بالقوة دون مراعاة لفقه الموازنات:

يذهب أصحاب هذا الموقف الى نقيض الطرف السابق، فلم يصبروا على ما يرون من شدائد ومحن وابتلاءات في دينهم وأعراضهم ، ورأوا أن الموقف حيال ذلك هو المواجهة المسلحة من غير نظر الى ما يترتب عليها من مفاسد كبيرة ودون نظر الى واقعية المصالح المقصودة من عدمها ، ونشأ نتيجة لذلك أضرار عظيمة على الدعوة وأهلها في المحيط الذي دارت فيه هذه المواجهات ،(ولا أعني بذلك الحركات الجهادية التي أعلنت الجهاد على الكفار ضد الملاحدة في الشيشان، أو الصهاينة في فلسطين ، أو الكفرة في العراق ،أوالطغاة الباطنيين في سوريا،فهذا يعتبر من جهاد الدفاع عن النفس والعرض ،وهذا مشروع حتى في القانون الدولي ،وإنما أقصد استخدام السلاح في بعض بلدان المسلمين قبل وضوح راية الكفر ، ودون وضوح راية أهل الايمان في مقابل ذلك ، وترتب على ذلك اختلاط الأوراق وعظم البلاء، حيث وجد هؤلاء المتحمسون أنفسهم وجهاً لوجه أمام اخوانهم المسلمين يقتل بعضهم بعضاً في فتنة عمياء لا يعرف لها قرار.

الموقف السادس وهو موقف أهل الحق :

أصحاب هذا الموقف هم الذين وفقهم الله عز وجل للفهم الصحيح والقصد الحسن ، وجنبهم تلك المواقف سابقة الذكر، فأحسنوا الظن بالله ، والايمان بوعده بنصر المؤمنين،فلم تساورهم الوساوس والشكوك،فلم ييأسوا، أويصيبهم الاحباط والضعف والاستكانة، وكذلك لم يهزموا أمام ضغط الواقع وشدة الابتلاء، فيتنازلون عن أصول دينهم وثوابته، بل ثبتهم الله عز وجل بالقول الثابت ،وقبضوا على دينهم كالقابض على الجمر، وكذلك حماهم الله من الاستعجال في الأمورقبل أوانها، ووفقهم لفقه الموازنات،وفهم مقاصد الشريعة، وكذلك برأهم الله من مواقف المنافقين والمرجفين ،وموقف أهل الدنيا الراكنين اليها، الذين لا يهمهم أمر الدين وأهله ، انما همهم أنفسهم ومصالحهم الشخصيةا ، فأطاعوا الله ورسوله،وتعرفواعلى طبيعة سنن الله في الابتلاء والمحن وحكمها وأحكامها ، وامتثلوا أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم { قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}  يوسف/108 ،والله أعلم وأحكم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين