مواجهة داخل جامع قرطبة

دارت تلك المواجهة بيني وبين دليلنا السياحي داخل جامع قرطبة، الذي استخدم رصيده من أكاذيب الكتب ليملأ بها رؤوس الفوج السياحي متعدد الجنسيات الذي كنت أحد أعضائه.

كنتُ في رحلتي إلى الأندلس مفعما بالشغف، أخفف الوطء وأنا أدوس على ثرى أرض تحمل رفات الأجداد الذين بنوا صروح المجد والعلم والعرفان.

تجولت في ربوعها أتلمس آثار حضارتنا، فما وجدت غير أطلال، ظللت أنتقل بينها ويرن في أذني مطلع قصيدة " دِعْبِل الخُزاعي " في آل البيت :

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ=ومنزلُ وحيٍ مُقفِرُ العَرَصاتِ .

فقد زالت غالبية المنازل والمدارس والمساجد والحمامات والأسبلة والخانات والأسواق والمشافي التي كانت آثاراً ناطقة وعلامات بارزة على التقدم والعلم والنظافة والخير والضيافة .؟!

لم يبق منها إلا نذر يسير، قدر الله إنقاذه من يد الحقد والجهل والتعصب، ومنه جامع قرطبة.

مازال بنيان الجامع قائماً ولكن تحول إلى كاتدرائية، ولم ينج من داخله إلا جزءاً من أعمدته وأقواسه، وشواهد جمال وإبداع قل نظيره في زخارف المحراب والقبة التي تعلوه وبعض أجزاء المسجد.

في جامع قرطبة أشار المرشد السياحي إلي بعض التوقيعات الممهورة على بعض الأعمال داخل المسجد، وذكر أنها تمثل أسماء من شاركوا في بناء وتصميم وزخرفة المسجد، وبعض تلك الأسماء لمسلمين وبعضها ليهود ومسيحيين، وقد جُمعت تلك التوقيعات فيما يشبه لوحة الشرف وقامت إدارة الأثر بتجميعها على ورقات مجمعة داخل صناديق زجاجية معلقة على حائط جانبي.

وبدأت المواجهة بيني وبين المرشد السياحي حين استنتج من وجود أسماء مسيحية ويهودية، أن العرب المسلمين الذين قدموا إلي أسبانيا لم يكونوا أهل حضارة، ولم يكن لهم خبرة فنية ولا مهارية، ولذلك استعانوا بأهل البلاد من ذوي الخبرة من مسيحين ويهود.!

لم أُطِق صبرا على تحمل تلك الأكاذيب، وقررت مواجهته، استأذنته في المداخلة على مرأى ومسمع من الفوج، وقلت له:

هذا المسجد لم يبق من زخارفه سوى المحراب وما حوله والقبة التي تعلوه، بخلاف زخارف الواجهات الخارجية، وباقي المسجد تم تحويله إلي كنيسة بعد إخراج المسلمين من الأندلس.

والسؤال الموجه لك وللسادة زملائنا في الفوج:

هل هناك أي وجه شبه بين الزخارف الباقية من المسجد وبين ما تلاها بعد تحويله إلي كنيسة.؟

وهل هناك أي شبه بين الزخارف القديمة للمسجد وبين الزخارف السائدة في أسبانيا القوطية قبل دخول العرب إليها.؟

الإجابة القطعية: لا.

إذاً ؛ كان الأولى بك عزيزي المرشد السياحي، وبالكتب التي نقلت عنها، أن تستنتج أن العرب المسلمين حين أتوا إلى هذه البلاد، جاءوا ومعهم ثقافة وفنون جديدة، وحين أقاموا دولتهم هنا استثمروا الأيدي العاملة من أهل البلاد، وأعادوا تأهيلهم وتعليمهم على استخدام الفنون الوافدة إليهم، وهؤلاء بدورهم وبصفتهم مواطنين في دولة أعطتهم حق المواطنة أيا كانت عقيدتهم، ساهموا في الدولة التي احترمت خصوصيتهم العقدية وأتاحت لهم فرص العمل داخل الدولة.

وأسماءهم المسيحية واليهودية هي في حد ذاتها فضيلة للحكم الإسلامي في الأندلس، والذي سمح لأهل البلاد للاحتفاظ بأسمائهم، بعكس ما فعله الغرب حين عاد لتلك البلاد، وهو عين ما فعله الغرب في البلاد التي احتلها، ففي مدارس جنوب أفريقيا تحت حكم الرجل الأبيض، كان الطفل الأفريقي بمجرد دخوله للمدرسة يمحون اسمه الأفريقي ويختارون له اسما انجليزيا يصبح هو اسمه الرسمي، وبمقدورك التأكد من المعلومة بالرجوع لمذكرات "نيلسون مانديلا".!

وبالطبع تجاوز الدليل السياحي هذا النقاش حين رأى علامات الاستحسان في صيحات وحركات ونظرات زملائنا في الفوج.

وهذا نموذج بسيط من الأكاذيب التي تطارد عقول المسلمين بآلة إعلامية جبارة وصلت حتى للآثار والأماكن السياحية ومواد الدعاية، بغية فصل المسلمين عن تاريخهم المجيد وحضارتهم الراقية، ودفعا لهم لاحتقار ذواتهم والارتماء على أعتاب الغرب.

ذلك التاريخ المجيد والحضارة الراقية دفعت مفكرا كبيرا منصفاً مثل "جوستاف لوبون" إلى القول في كتابه (حضارة العرب):

( لم يقتصر تأثير العرب أن يحولوا أسبانيا مادياً وثقافيا في بضعة قرون ؛ بل أثروا في أخلاق الناس، فهم الذين عَلَّموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها، التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، وبلغ حلم عرب أسبانيا نحو الأهلين المغلوبين مبلغاً كانوا يسمحون به لأساقفتهم أن يعقدوا مؤامراتهم الدينية، كمؤتمر أشبيلية النصراني عام 782 م، ومؤتمر قرطبة النصراني عام 852 م، هذا بخلاف الكنائس التي تم بناؤها أثناء فترة الحكم العربي.)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين