مهاجمة المقرات جنون وجريمة

 

الدرس الأخير الذي تعلمناه من معركة حلب

 

المجاهدون، وهم محاصرون، في ظل قصف لا يتوقف، يجتمع بعضهم فيهاجمون مقراً لفصيل آخر!!!!

نعم، هو مشهد تكرر في حصار حلب، ونحن بين مصدق ومكذب.

أولاً: علينا أن نصدق ذلك، هو قد حصل فعلاً، وعلينا أن نفهم لماذا حصل ذلك.

المجاهدون يعيشون في حصار شديد مطبق، هو ظرف صعب قد لا نستطيع وصفه نحن المراقبون من الخارج. وتختلف الاجتهادات في مواجهة هذا الظرف الصعب، ويعمل البشر في ظل هذا الحصار بناء على توجهات مختلفة، وتدفعهم لتصرفاتهم أنواع مختلفة من الدوافع، ولا تفسر قراراتهم دائماً بناء على حساب الربح والخسائر.

في هذا الظرف يشعر الإنسان أحياناً أن الخطأ الذي يرتكبه شخص آخر شريك له في الحصار سيؤدي لهلاك الجميع، وهذا حق، كل قرار خاطئ في هذا الموقف نتائجه كارثية، والواقعون تحت الحصار جميعا شركاء في اتخاذ قرارات قد تحدد مصيرهم.

في ظل هذا الوضع يبادر بعض المجاهدين لاتخاذ بعض التصرفات أو المواقف، مجتهدين أنها قد تنقذ شيئاً أو تخفف معاناة. ومن لا يوافقهم يرى أنهم يساهمون في قتله وإحكام حصاره، فيعاملهم كأنهم خونة، أو يرى أنهم بهذا التصرف والوا أعداء الدين، أو خرجوا من الملة، فيهاجمهم بالسلاح، وهذا تصرف انتقامي لا يفيد شيئاً. مهاجمة مقرات الفصائل المخالفة في ظل الحصار لا تخفف حصاراً، ولا تنكأ عدواً، إنما هي فقط تفرغ شحنة غضب المقاتل على العالم، وقد تفرغ ما تبقى معه من ذخيرة!!

هذا ما نظنه يجري في الواقع، فهل كان من الممكن أن تجري الأحداث باتجاه آخر في ظل الحصار؟؟

نعم، كان من الممكن أن تجري الأحداث في طريق آخر. إن القائد البصير يعلم أن مهاجمة الفصيل المجاور لي لن تخفف عني الحصار، فيسعى في بدائل أخرى، صحيح أنها كلها بدائل ضمن إطار الصمود الأخير وطريقة الموت التي سنختارها معا، لكنها هي البدائل التي يختارها الإنسان العاقل الذي يعي صعوبة موقفه، والأهم: هي البدائل التي لا يتهم فيها بالتسبب في مزيد من القتل والدماء، وهي البدائل التي يظن أنها تنجيه حين يسأله ربه سبحانه وتعالى عن جهده واجتهاده في قيادته، والله سيسألنا جميعاً، قادة وجنوداً، في الداخل والخارج.

هناك من يقول: هل تريد مني أن أترك هذا الذي يخرب علي عملي ويخرق جبهة الصمود ويضعف الموقف السياسي والعسكري، هل تريد مني أن أتركه يفعل ما يشاء؟!

نعم، يمكن أن يكون الخيار هو ترك الفصيل الآخر لتوجهاته وبناء الجبهة من جديد على هذا الواقع الجديد الذي تصنعه هذه التغيرات في المواقف.

وبالتأكيد ليس الخيار الأفضل هو مهاجمة الفصيل الآخر.

وقد فعل هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في بعض مواقفه، وذكرنا الله بهذا في القرآن الكريم.

من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في قيادته في الظروف الصعبة موقفه قبل غزوة أحد، يوم اختلف المسلمون بشأن الخروج من المدينة، ورجع عبد الله بن أبي ابن سلول بقسم من الجيش، وهمت طائفتان من المؤمنين أيضا أن تترك الجيش. يومها لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم الراجعين من الجيش بالقوة، ولم يحول هجومه إلى الطائفتين اللتين همتا بالرجوع، إنما كان قراره صلى الله عليه وسلم أن يستمر بالمسير إلى أحد والإعداد للمعركة القادمة. وذكّر الله تعالى المؤمنين بهذا الموقف في قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: نزلت هذه الآية فينا: بني سلَمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: {والله وليهما}.

وسار النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السيرة في غزوة الخندق، وموقفها كان من أصعب المواقف على المؤمنين: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}، ووصفت الآيات الكريمة ما كان يقوله المنافقون في تلك المحنة، ولم تذكر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجمهم بيده أو بلسانه أثناء الحصار، وبعد الحصار استمر عليه الصلاة والسلام في سيرته معهم، بأن يكلهم إلى ظاهرهم، ويحتوي آثار تخذيلهم.

والخلاصة أن هذه المواقف الصعبة، ونحن ندرك صعوبتها، ونعلم عظم المصاب فيها، هذه المواقف تظهر المنافقين، وتمتحن إيمان المؤمنين. فمن أراد فيها أن يكون مع المؤمنين المفلحين ليكف سلاحه عن شركائه في المعركة، خشية أن يتحول إلى قاتل مع القتلة، أو إلى مخذل مع المخذلين، ولو رأى من أبناء صفه اجتهادات لا يوافقها، ولو كانت خطيرة، فليسر فيما يرى أنه الحق، وليمت مجاهداً لأعداء الله بدل أن يموت في معارك لا يجوز أن تقوم أصلاً، وعدونا المتربص قريب منا يهاجمنا من كل الجهات.

أخيراً، نرجو ونتمنى من الإخوة المجاهدين المرابطين، أن تكون آخر صورهم في أذهان الشعب وتاريخ الأمة صور المقاومة والاستبسال في وجه الأعداء، بدل أن تكون صور النزاع والفشل. فإن سقطت حلب بعد معركة بطولية يعذر فيها المقاتل إلى ربه، ستقوم بعدها نماذج جديدة للمقاومة، وستؤسس قوى جديدة لحفظ الأمة ودينها. أما إن سقطت حلب بعد معارك داخلية ونزاع داخلي أهلي فلن يقوم في نفوس الأفراد بعدها إلا اليأس، ولن ينتشر في فكر الأمة بعدها إلا فكر الاستسلام، وسعي كل فرد لمصالحه الخاصة.

والله تعالى هو البصير بعباده، العليم بحالهم، وما النصر إلا من عنده سبحانه. اللهم انصرنا على عدونا واجعل ثأرنا على منن ظلمنا. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين