-1-
عندما نحصي ضحايا الثورة نتحدث عن مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمغيَّبين. هؤلاء نأسى من أجلهم وندعو لهم، بالرحمة لمن مضى شهيداً وبالحرية لمن بقي أسيراً، ولكننا ننسى -غالباً- أن وراء أولئك الرجال نساءً بَقينَ بلا مُعيل، وكثيراتٌ منهنّ ذوات ولد، فمَن يُعيل أولئك الأيامى العاجزات؟
إن "الحرب مَأْيَمَة" كما تقول العرب، أي أنها تقتل الرجالَ فتترك النساء بلا أزواج، والأيّم كل امرأة بلا رجل، بكراً كانت أم ثيباً. فكم خلّفَت الحرب في سوريا من أيامَى عاجزات، بعضهنّ مع أطفال وبعضهن بلا أطفال، وكلهنّ يحتجنَ إلى الرعاية والإنفاق؟ كيف يعشنَ ومن أين يأتينَ بقُوتهنّ وقُوت الصغار؟
-2-
يظن كثير من أصحاب الأموال أن الإنفاق على أولئك الأيامى المحتاجات كرمٌ وتفضّل هم فيه بالخيار، إن شاؤوا مَنّوا بالإنفاق وإن شاؤوا أحجموا عنه وتركوه. وليس الأمر كذلك، فالشرع لم يترك محتاجاً عاجزاً يتكفف الناس أو يموت من الجوع، بل وضع نظاماً يتكفل بسدّ الحاجات المعيشية الأساسية للعاجزين.
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على "وجوب" إنفاق الأغنياء على أقربائهم الفقراء العاجزين، واتفقوا على أن العاجز الذي تجب نفقته في مال غيره هو الذي لا يملك مالاً يكفيه لحاجاته المعيشية الضرورية ويعجز عن العمل والتكسّب بسبب المرض أو الشيخوخة أو لعاهة مانعة.
ثم قالوا (وهنا بيت القصيد): "وتعتبر الأنثى غيرُ ذات الزوج عاجزةً عن الكسب بسبب الأنوثة ذاتها". بمعنى أن الفقهاء اعتبروا أن الرجل مكلَّف بالعمل لكسب ما يحتاج إليه ولا يجب على أقربائه الإنفاق عليه إلا إذا عجز عن العمل لسبب مشروع (كالهرم والمرض المزمن) واعتبروا أن الأنثى غير مكلَّفة بالعمل ويجب على أقربائها الإنفاق عليها بما يكفيها، هي وأطفالها إن كان لها أطفال (كما هو شأن مئات الآلاف من الأيامى في سوريا اليوم) لأن الصغيرَ عاجزٌ أيضاً بالاعتبار ذاته.
-3-
ثم اختلفوا في توزيع المسؤولية وتحديد المكلَّفين بالإنفاق، فاقتصر الشافعية والمالكية على وجوب نفقة الأصول في الفروع ونفقة الفروع في الأصول، على اختلاف في الدرجة بين المذهبين، وهذا الرأي الضيق لا يكفي لسد حاجات الناس في هذه الأيام.
المذهبان الحنفي والحنبلي أوسع وأشمل، وهما الأَولى بالاختيار نظراً للمأساة الهائلة التي نعيشها في سوريا هذه الأيام. فقد أوجب الحنابلة نفقةَ الفقير العاجز على من يرثه لو كان ذا مال، وأوجبها الأحناف على القرابة المَحْرَميّة، فكل قريب لا يصحّ الزواج به إذا كان أحدُ الاثنين أنثى وجب عليه أن يشارك في النفقة. فأوجبوها على الخال لأن قرابته محرمية، ولم يوجبوها على ابن العم لأنها ليست كذلك، مع أنه يرث قبل الخال.
فإذا كُلِّف الأقارب الموسرون بالنفقة على القريب المحتاج توزعت الحصص بينهم بالنِّسَب ذاتها التي يُوزَّع بها الميراث عليهم. جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "يجب ذلك عليهم على قدر الميراث، لأن التنصيص على الوارث تنبيهٌ على اعتبار المقدار، ولأن الغرم بالغنم". وقال الموفق في "المغني": "ولنا قوله تعالى {وعلى الوارث مثل ذلك}، فرتب النفقة على الإرث، فيجب أن تترتب في المقدار عليه".
-4-
فصارت القاعدة عند الحنابلة "أن النفقة على الفقير العاجز واجبةٌ على كل من يرثه لو مات وله مال". قال الشيخ الإمام محمد أبو زهرة: "هذا المذهب هو أقرب المذاهب إلى النصوص والقواعد الفقهية وأوسعها تعميماً للقرابة التي تُلزَم بالنفقة على الفقير العاجز. أما قربُه للنصوص فلأنه تطبيقٌ للنص القرآني الذي يوجب نفقة الصغير على الوارث له، ويُقاس على الصغير كل عاجز من ذوي القرابة. وأما انطباقه على المقاصد الإسلامية فلأن من القواعد المقررة في الشريعة أن الحقوق والواجبات متبادَلة، فإذا كان الميراث حقاً للوارث إذا مات المورِّث غنياً فعليه واجبُ الإنفاق عليه إذا عاش عاجزاً" (لمزيد من التفصيل يراجَع كتاب "في المجتمع الإسلامي"، ص77-84).
واتفقوا على أن النفقة تشمل الغذاء والكساء والمسكن لأنها ضرورات. قلت: ولا بأس في أن يُضاف إليها -بالقياس- الدواء لأنه من أساسيات البقاء، وكذلك أدوات الدِّفاء التي لا يُستغنى عنها في شتاء سوريا القارس الذي زاد معاناةَ النازحين وساكني المخيمات.
واتفق الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) على أن الذي يكلَّف بالإنفاق على أقاربه المحتاجين هو مَن يملك زيادة على نفقته ونفقة عياله في يوم وليلة. وأحسب أن في هذا القيد مبالغة، فالمرء لا يحصل على "الأمان المالي" إلا إذا كان معه ما يكفيه للنفقة على أسرته لعدة أسابيع، لا سيما وأن أكثر الناس يعيشون في هذا العصر على رواتب يقبضونها كل شهر مرة. لذلك أقترحُ أن نأخذ بالمذهب الحنفي الذي يرى أن حدّ اليسار الموجِب لنفقة الأقارب هو "يسار الفطرة"، وهو أن يملك الشخص ما يَحرُم عليه به أخذ الزكاة، "فمن وجبت عليه الزكاة وجب عليه الإنفاق على القريب المحتاج"، وهذه قاعدة واضحة صالحة.
-5-
بقيت حالة تحتاج إلى بيان. ماذا لو وُجدت نساء محتاجات في مكان ليس معهنّ فيه أحد من أقاربهن الذين يكلَّفون بالنفقة عليهن، كما هو الشأن في مخيمات النزوح ومجتمعات الشتات داخل سوريا وخارجها في هذه الأيام؟ في هذه الحالة ينتقل واجب الإنفاق إلى بيت المال. ولمّا لم يكن لنا "بيت مال" ترعاه سلطة شرعية فإن من يقوم مقامه -فيما أرى- هو الكيانات الأهلية والمجتمعية التي تقدّم الخدمات الإغاثية للناس، فيجب عليها وجوباً عينياً كفايةُ كل من يقيم في مناطقها من العاجزين، النساء أولاً ثم الرجال، على قاعدة الأعلى حاجة ثم الأدنى فالأدنى.
فإن لم يوجد شيء من ذلك تنتقل الكفالة الواجبة إلى جماعة المسلمين، وهي قاعدة عامة تنطبق على كل عاجز، حتى من البهائم والحيوانات؛ قال الفقهاء: "إذا عجز صاحبها عن الإنفاق عليها وجبت نفقتها في بيت المال، فإن لم يوجد في بيت مال المسلمين من المال ما ينفق الحاكم منه عليها وجب على جماعة المسلمين كفايتها". فإذا كان هذا هو الحكم في الحيوانات العَجْماوات فكيف بحرائرنا الشريفات المنكوبات اللائي أصبحنَ بلا معين ولا مُعيل؟
وهذا معناه أن على أهل كل محلّة (ضَيْعة أو بلدة أو حي أو مخيم، أو أي تجمع سكاني كان) أن يبحثوا عن النساء الأيامى اللائي يعشنَ بلا أزواج ولا إخوة أو آباء، فيكفُلوهنّ ويكفوهن كفالةً وكفايةً عامة يساهم فيها أهلُ المجتمع جميعاً، كلٌّ بما يستطيع.
لو طبقنا هذه القواعد الشرعية والأخلاقية لن تبقى بيننا نسوة ضعيفات عاجزات يتكفَّفْنَ الناس أو يُهرِقْنَ كرامتهن من أجل معيشتهن ومعيشة أطفالهن، وفي هذا الفعل النبيل أجرٌ عظيم لكل من كان له فيه نصيب، وفيه حصانةٌ للمجتمع وحفظٌ له وتوفيق من الله رب العالمين.
* * *
ملاحظة ختامية: الخيرُ في الناس كثير، ولا ريب أن عامّتهم لا يحتاجون إلى فتوى ولا إلى تذكير، بل إنهم لَيَمدّون يد العون بما يستطيعون في كل حين. ولكنْ لا ريب أيضاً أنّ تقنينَ مساعدة أخواتنا وبناتنا المحتاجات وتقديمَها في إطارها الشرعي الصحيح سيساعد على انتشارها أكثر وأكثر، فعسى أن تتبنى هذا الرأيَ وتُصدر فيه الفتاوى اللازمةَ هيئاتُنا الشرعية الموقرة، وعلى رأسها "المجلس الإسلامي" الذي صار هو المرجع الأعلى لأحرار سوريا في الدعوة والإفتاء، وعسى أن ينشر هذه الأفكارَ الخطباءُ والدعاةُ في المناطق المحررة وفي المخيمات وبلدان الشتات التي يقيم فيها السوريون.
حفظ الله حرائرنا من كرب الحاجة وذلّ المسألة وحماهنّ من كل سوء.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول