من وصاته صلى الله عليه وسلم لأمته

 

 

روى الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ؛ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ).

 

ثُمَّ قَالَ: " فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَيْس يَوْمَ النَّحْرِ؟" فَقُلْنَا: بَلَى. قال : "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلالا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلِّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ) مرتين.

 

المعنى:

 

إنَّ الله تعالى اختصَّ بعضَ الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات، تَستلزم تركَ المحرَّمات فيها، لأجل تنشيط الأنفس على زيادة العناية بما يزكيها ويرفع شأنها، فإنَّ من طبع البشر المَلل والسآمة من الاستمرار على حالة واحدة تشقُّ عليها، فجعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقَّة في أدائها: كالصلوات الخمس، فإنَّ أدنى ما تصحُّ به صلاة الفريضة لا يَتجاوز عشرَ دقائق للرباعية منها وهي أطولها، وما زاد فهو كمال، وخَصَّ يوم الجمعة في الأسبوع بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين في التذكير والموعظة الحسنة التي تقوِّي في المؤمنين حُبَّ الخير والحق، وكره الشر والباطل، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة مصالح الملَّة والدولة.

 

وخصَّ شهر رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وأياماً معدودات من شهر ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها من أول ذي القعدة وما بعدها إلى آخر المحرم من الأيام التي يحرم فيها القتال؛ لأن السفر إلى مشاعر الحج في الحجاز والعودة منها تكون في هذه الأشهر الثلاثة، كما حرَّم مكة وما حولها في جميع السنة، لتأمينِ الحجِّ والعمرة التي تؤدى في كل وقت، واحترام البيت الذي أضافه نفسه في قوله تعالى: [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] {البقرة:125}.

 

وشرع فيه من العبادة ما لا يصح في غيره، فكان الرجل يلقى قاتل أبيه في أرض الحرم وفي غيرها من الأشهر الحُرُم فلا يَعرِضُ له بسوء، على شدَّتهم في الثأر، وضراوتهم بسفك الدم، والأشهر الحرم ثلاثة سرد وهي: ذو القعدة، و ذو الحجة، والمحرم، وشهر فرد: وهو رجب، وحُرِّم هذا الشهر في وسط السنة لتقليل شرور القتال، وتخفيف أوزاره، ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه.

 

ولولا اختصاصه تعالى لما شاء من زمان ومكان بالعبادة فيه لما كان للأزمنة والأمكنة في نفسها مزية في ذلك، وأهواء الناس لا تتفق على زمان ولا مكان في كل ذلك إليهم، كما ورد في تقبيل الحجر الأسود من قول عمر رضي الله عنه: (إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلك لما قَبَّلتك).

 

كانت العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه، فكان لهذه الأشهر أثر عظيم في حياة العرب الاجتماعيَّة، وخاصَّة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فبينما تكون الحروب مستمرة، والغارات قائمة، ويكون الناس مُندفعين وراء ثاراتهم وأحقادهم وعصبياتهم، يقف كل هذا حين حلول الأشهر تعظيماً لها واحتراماً لقدسيتها.

 

وفي القرآن الكريم عدَّة آيات في صدد هذه الأشهر:

 

1 – [الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ] {البقرة:194}.

 

2 – [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ] {البقرة:217}.

 

3 – [فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] {التوبة:5}.

 

4 – [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] {التوبة:36}.

 

ففي هذه الآيات شواهد صريحة على أنَّ حُرمة الأشهر الحُرُم كانت قائمة قبل البعثة بزمن طويل.

 

ولكن القوم شقَّ عليهم ذلك، لأنهم أهل غارات وثارات مُتواصلة مُتبادلة، والعصبيَّة على أنواعها قوية شديدة بينهم، والأَنفة والحميَّة مُشتعلة نيرانها بين جوانحهم، وهم في الوقت نفسه أهل تجارة لابدَّ لها من مشترين ومستهلين، وأهل حاصلات لابدَّ لهم من المُبادلة على غلاتهم وثمارهم وما يزيد عندهم من أنعام ومواشٍ وشعر ووبر وصوف، فشقَّ عليهم أن تمتدَّ هُدنتهم كلَّ هذه المدة، فيتركوا القتال وشنَّ الغارات أربعة أشهر، فأخذوا يبدِّلون ويغيرون ويحلُّون ويُحرِّمون كما تشاء أهواؤهم وكما تملي عليهم مصالحهم، مخالفين في ذلك النصوص الصريحة والعادات الموروثة.

 

وعرف هذا التغيير من زيادة وتبديل بالنسيء.

 

فالنسيء تشريع ديني ملتزم غيَّروا به مِلَّة إبراهيم بسوء التأويل واتباع الهوى، فلهذا سمَّاه الله سبحانه زيادة في الكفر، قال تعالى: [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ] {التوبة:37}.

 

والمراد من استدارة الزمان في الحديث: عودة حساب الشهور إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغيَّر عند العرب.

 

قال الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري: كان العرب في الجاهلية على أنحاء، منهم من يسمي المحرم صفراً فيحل فيه القتال، ويحرِّم القتال في صفر، ويسميه المحرم، ومنهم من كان يجعل سنة هكذا وسنة هكذا، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا، ومنهم من يُؤخر صفراً إلى ربيع الأول وربيعاً إلى ما يليه وهكذا، إلى أن يصير شوال ذا القعدة وذو القعدة ذا الحجة.

 

فالمراد باستدارة الزمان في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث أنَّ زمان الحج قد عاد إلى وقته الأصلي، ورجعت أشهره إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة.

 

وقوله: (ورجب مضر) إضافة إليهم؛ لأنَّ مُضر كانوا مُتمسكين بتعظيمه بخلاف غيرهم، فإنَّ ربيعة بن نزار كانوا يُحرِّمون شهرَ رمضان ويُسمونه رجباً.

 

وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) المراد بهذا كله بيان غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك، فإنَّ الأصول الكليَّة التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها خمسة وهي: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال).

 

فالدماء: وهي الأنفس والأموال والأعراض حرام التعدي عليها إلا بحقها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة". أي: جماعة المسلمين. [أخرجه البخاري ومسلم]

 

وأما الأموال: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا من طيب نفس منه) فإن كان عن طيب نفس منه فلا يتناوله التحريم.

 

وأما الأعراض: فقد قال تعالى: [لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ] {النساء:148}. أي من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحاً ظلامته للحكام أو غير الحكام ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة الظلم، فلا حرج عليه في هذا الجهر، ولا يكون خارجاً عما يحبه الله تعالى؛ لأن الله تعالى لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظالم، ويخضعوا للضيم، بل يجب أن يكونوا أباةً أعزَّاء.

 

فبان إذن أنَّ للدماء مواطن تسيل فيها، وللأنفس مَقامات تزهق فيها، قال تعالى: [وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ] {الإسراء:33}، وللأعراض حقوقاً تصان فيها، ولها مسوغات تؤذى فيها، فالحديث ليس على إطلاقه، ثم ختم صلى الله عليه وسلم الحديث بالتحذير من رأس المصائب، واس الفساد، ومنبع فناء الأمم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض).

 

وفي هذا القول تحذير من الفتن والشقاق والتنازع والخلاف، فإنَّ ائتلاف القلوب والمشاعر، واتحاد الغايات والمناهج، من أوضح تعاليم الإسلام وألزم خلال المسلمين المخلصين.

 

ولا ريب أنَّ توحيد صفوف الأمة واجتماع كلمة الجماعة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، وحفظ شوكتها، ودوام قوتها، وسر بقائها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شديد التحذير من عواقب الفرقة وشرور الاختلاف، وكان في حله وترحاله يوصي بالتجمع والاتحاد.

 

عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشيطان يهم بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم) [أخرجه مالك في موطأه وغيره]. وقال تعالى: [وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] {الأنفال:46}.

 

فالناس إن لم يجمعهم الحق شعَّبهم الباطل، وإذا لم توحِّدْهم عبادةُ الرحمن مزَّقتهم عبادة الشيطان.

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية) [أخرجه مسلم].

 

وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بعهد ذي عهدها، فليس مني ولست منه).

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد 3، (السنة 11، 1376هـ 1957م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين