من وحي المولد النبوي

 

 

 أكتبُ ، وأجعلُ ، بينَ القلمِ والقلبِ ، صورةً منْ ذاكَ النّورِ النبويِّ الذي شرّف الأرضَ ، ورَفَعها ، وخطّ لسكانِها طريقاً إلى الجنّةِ العامرةِ ، من بعدِ ما أُخرجوا منها ، بما جاءَ بهِ منْ معاني الإنسانيةِ السّاميّةِ ، والخصائصِ التي أَحالتْ حربَ النّفس مع أختِها النّفس ، في همّ الدّنيا و مفاتِنها ، إلى تكاملِ الحبِّ بينَ جموعِ الإنسانيّةِ ، ولتصنعَ ، منْ ثَمَّ ، آفاقَ العالمِ الخالدِ ، بسماتِ الحياةِ السعيدةِ ، لكلِّ بني البشرِ !

 

أقرأ تلكَ الولادةَ التي غيّرتْ مجرى التّاريخِ ، فجعلتْ للنّاسِ لغةً جديدةً ، وروابطَ جديدةً ، ثمَّ أتأمّلُ كيف تركتْ هذهِ الانعطافةُ أصحابَ محمدٍ الرّسول، صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ، يتصلونَ بـ [نبيِّهم، ثمَّ بعضِهم ببعضٍ، لا كما يتصلُ إنسانٌ بإنسانٍ، بل كما تتصلُ الأمواجُ بقوة المدِّ، ثمَّ كمَا يمدُّ بعضُها بعضاً في قوة واحدةٍ ] على تعبيرِ أميرِ البيانِ الرّافعيّ .

 

ولم تكنْ فلسفةُ محبّتهم هذهِ بمنقطعةٍ عنْ ذاكَ الكمالِ النّفسي فيهم ، هذا الكمالِ الآتي منْ انعكاسِ الكمالِ النّبويّ في نفوسِهم ، في حضورِهِ وغيابِهِ ، في ضمائرِهم وعلانيّتهم ؛ فقد [ حقَّقوا في كمالِهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم وجودَهم النَّفسيَّ؛ فكانوا ، من زخارفِ الحياةِ وباطلِها ، في موضعِ الحقيقةِ الذي يُرَى فيهِ الشَّيءُ لا شَيءَ ] .

 

وبهذا فقد كانَ أصحابُ النبيِّ المصطفى [أكبرَ علماءِ الأخلاقِ على الأرضِ ، لا مِنْ كُتُبٍ ولا عِلْمٍ ولا فَلسفةٍ، بلْ من قلبِ نَبيّهِم وحدَهُ ] كما يبينُ أبو السّامي .

 

فهذا النّورُ الذي أفاءَ على الأرضِ ، قلّبَ التربةَ منْ عمقِها ، وراعى التّربيةَ منْ جذورها ، فسقّاها بماءِ القلبِ ، ورعاها بدفءِ الحبِّ الصّادقِ ، والأبوةِ الحانيةِ ، فخرجتْ أجيالٌ ترى حياتَها في فنائِها ، وعزّ وجودِها في سعادةِ منْ حولِها ، وكرامَتها في نصرةِ رسالةِ نبيّيها !

 

خرجتْ بهذهِ الرّسالةِ العزيزةِ نماذجُ إنسانيّةٌ ترى الدّنيا ، بمفاتِنها ، سبيلاً لجنّةٍ أرقى وأسمى ، فما الهمُّ يأتيهِ مهاجماً ، إلا رآهُ صفحةً من خيرٍ ، تسوقُهُ إلى فتحٍ ، فلا تلمحُ وهناً فيهم ولا خوراً ، ولا تخاذلاً ، قد كانوا مثالَ [المسلمِ يَضربُ بالسَّيفِ في سبيلِ اللهِ , فتقعُ ضرباتُ السُّيوفِ على جسمِهِ فتمزّقُهُ ؛ فما يَحسُّها إلا كأنَّها قُبُلُ أصدقاءٍ مِنَ المَلائكةِ يلقونَهُ ويعانقونَه ! ] .

 

وقد كان الواحدُ فيهم [ يُبْتَلى فِي نفسِهِ ومالِهِ ، فلا يَشعُرُ فِي ذلكَ أنَّهُ المرزَأُ المُبْتَلى يُعرفُ فيهِ الحُزنُ والانكسارُ، بل تظهرُ فيهِ الإنسانيّةُ المنتصرةُ كمَا يَظهرُ التّاريخُ الظّافرُ في بطلِهِ العَظيمِ ، أُصيبَ في كلِّ موضعٍ من جسمِهِ بجراحٍ ، فهيَ جِراحٌ وتشويهٌ وألمٌ ، وهِيَ شهادةُ النَّصرُ! ] على بيانِ الرّافعيِّ رحمَهُ اللهُ تعالى .

 

وما تلكَ الصّورُ العاليةُ التي تتالتْ ، في مشاهدِ الحبِّ ،والتّقدّمِ ، والعظمةِ ، والخلودِ ، في حياةِ الأمّةِ المحمديّةِ إلا نتاج هذا النّورِ الذي حلَّ على بني البشر ، في شخصِ الحبيبِ المصطفى ، وما حالُ التّردّي الذي تعيشُهُ هذهِ الأمّةُ ، هذهِ السّنوات ، إلا لعدمِ قدرتِها على استقبالِ ذرّاتِ هذا النّورِ ، وتحليلها ، وتفكيكِ رموزِ قوّتِها واستعلائِها ، وحلّ أسرارِ بقائِها وأثرِها الدّائمينِ الباقيينِ إلى قيامِ السّاعةِ !

 

ولعلّ كلمة أديبِ الشّامِ الطنطاوي في خاتمةِ مقالتِهِ ( في ذكرى المولدِ ) تكونُ أمنيةً ، تجدُ أسبابَ تحقيقها في أمّتنا التي تئنُّ ألماً ، وتستصرخُ ، فيها الأمّةُ ، نجباءَها ومخلصيها من أبنائها ، لتعودَ معالمُ النورِ كما كانتْ في سابقٍ منْ أيّامِ البهاءِ والهمّةِ والإنجازِ ، يقول الشيخُ العلامةُ :

 [وإنّي لأرجو منَ اللهِ .. أنْ يكونَ يومُ ذكرى المولدِ النبويِّ ، من هذا العامِ ، فاتحةَ عهدٍ جديدٍ في تاريخِ الإسلامِ ، كما كانَ يومُ المولدِ الشّريفِ فاتحةَ عهدٍ جديدٍ في تاريخِ العالمِ ] .

 

ا.هـ

 

 حَواشي :

مقالة ( حقيقةُ المسلم ) كتبها أمير البيان أبو السامي مصطفى صادق الرافعي لجماعة الكشاف المسلم ببيروت في ذكرى المولد النبوي ، وهي في كتابِهِ ( وحي القلمِ - الجزء 2/12) .

مقالةُ ( في ذكرى المولد ) كتبها أديب الشّام العلامة علي الطّنطاوي ، كتابه : نور وهداية -247 -253 ، وقد نشرت عام 1937 م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين