من هو العالم الرباني؟

العلماء والشيوخ كنا نتربى منذ الصغر على احترامهم، ونرغب بصحبتهم، والاستفادة من خطبهم ودروسهم، وقراءة مؤلفاتهم، منهم العلماء الراسخون في العلم، ومنهم من هو دون ذلك، ربما تسمع أحدهم وهو يحاضر في معارك بدر والخندق، فتظن أنه أسد من أسود الإسلام لا يقل عن “خالد” أو “أبي عبيدة” أو “القعقاع”، وربما تسمع لأحدهم وهو يخطب عن واقع الأمة الإسلامية وضرورة إصلاحه؛ فتحسب أن هذا الإنسان سيكون قائد ثورة لو كان معه رجال، بل ربما ظن البعض أنه يمتلك “كاريزما” تؤهله ليكون خليفة للمسلمين!

وفي زمن الثورات العربية، عندما حانت اللحظة الحقيقية لوضع كل هذا “التنظير” على المحك، رأينا من كثير منهم خيار “ابن سلول”، بعد أن “صرعنا” آنفا بخيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، من مثل “المقداد” و”سعد بن معاذ” اللذين خاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نقول لك كما قالت اليهود “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون”، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون؛ ووالله لو خضت بنا هذا البحر لخضاه معك..

أجل أيها الإخوة لقد سقط هذا العالم، فسأل البعض: هل هؤلاء حقا من العلماء، وما هو الضابط في اعتبار الإنسان من أهل العلم أم لا؟

وأستعين بالله تعالى في هذا المقال لتوضيح الصورة..

أولا: العلم

ذكر الشيخ “محمد الغزالي” رحمه الله في كتابه “جدد حياتك” ما نصه: “العلم هو: إدراك، وقواعد، وملكة، يعنون بالإدراك: التصور المجرد للأشياء، وبالقواعد: جملة المبادئ والقوانين والمصطلحات التي وضعها أهل الفنون المختلفة، وبالملكة: الخبرة المكتسبة من رسوخ المرء فيما حصله من معارف، وفيما وعاه من علم خاص، أو علوم شتى، والملكة إنما تتكون من وفرة الإدراك، واستحضار القواعد”.

وبناء على هذا التعريف، فإنه يمكن أن يطلق لقب “عالم” على من تمكن من هذه الأمور الثلاثة، وهذا أمر عام في أنواع العلوم كلها من فيزياء ورياضيات وطب وجغرافية وشريعة..

وما يعنينا في هذا المقال هو العالم في الشريعة، وهنا لا بد لنا من التفصيل في بعض المصطلحات التي تطلق على المتصدرين للشأن الديني، مع الإشارة إلى أن هذه المصطلحات محض توصيف لا علاقة له بالسلوك الذي سنتطرق إليه في جانب “الربانية”:

1) العالم: كل من تنطبق عليه الشروط المذكورة أعلاه، سواء أكان هذا العلم في نوع معين، من مثل الحديث أو التفسير أو الفقه “وربما يسمى محدثا أو فقيها أو مفسرا بحسب اختصاصه..”، أم بأكثر من علم، ويصل بعضهم في تعمقه أن يطلق عليه “علامة”، أو “عالم موسوعي”..

2) الشيخ: مصطلح واسع قد يطلق على الجاهل، وقد يطلق على طالب العلم، وقد يطلق على العالم، وقد يطلق على العلامة..

3) الداعي: الداعي إلى الله هو كل من يعرض الإسلام على الناس ويدعوهم إلى اتباع تعاليمه..

4) الواعظ: هو من يعظ الناس، يذكرهم بالجنة والنار، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر..

5) الخطيب: هو من يخطب الجمعة، أو العيد.. “وهؤلاء الثلاثة -الداعي والواعظ والخطيب- قد يمتلك أحدهم بضاعة قليلة من العلم -من دون أن يكون عالما-، وقد يكون عالما، وقد يكون علامة”..

6) الإمام: في عصرنا يطلق على من يؤم الناس في الصلاة، وهذا الإنسان قد يكون عاميا، وقد يمتلك بضاعة قليلة من العلم –من دون أن يكون عالما-، وقد يكون عالما، وقد يكون علامة..

وبعد أن تبين لنا معنى هذه المصطلحات، نجد أن العالم يقبل أن نضيف له أي لقب آخر إن مارسه، فمثلا إن مارس الدعوة فهو عالم داعية، وإن مارس الوعظ فهو عالم واعظ، وإن أم الناس أو خطب بهم فهو عالم وإمام وخطيب..

يستشكل البعض سلوك وتصرفات بعض أهل العلم، ويعجب لذلك أشد العجب، ويرى أن من يتصرف تصرفا بعيدا عن تعاليم الإسلام فلا بد من نزع وصف “عالم” عنه..

والحقيقة أنه ليس بإمكاننا نزع هذه الصفة عنهم، فالله سبحانه وتعالى كثيرا ما ذكر لنا عن أهل الكتاب أنه آتاهم الآيات والبينات وأن منهم علماء، ومع ذلك فقد اشتروا بها ثمنا قليلا، وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى في [سورة الأعراف] العالم “بلعم بن باعوراء” فقال:

“واتل عليهم نبأ الذي آتياه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين* ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون”(1)

إذن: هو عالم، وهم علماء، ولكن السؤال الأدق من قولنا هل هو عالم أم لا، هو السؤال الآتي: هل هو عالم رباني أم لا؟

ثانيا: الربانية:

يقول الله تبارك وتعالى: “ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون”(2)

للدكتور “يوسف القرضاوي” كتاب اسمه “الحياة الربانية والعلم”، يذكر فيه خصائص عدة للحياة الربانية في الإسلام، لكني سأكتفي بأولها، وأنصح بقراءة البقية من الكتاب مباشرة، والخاصية هي:

التوحيد الذي يقوم على أربعة عناصر:

أولها: ألا يبغي غير الله ربا: “قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء”(3)

وثانيهما: ألا يتخذ غير الله وليا: “قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض”(4)

وثالثهما: ألا يبتغي غير الله حكما: “أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا”(5)

ورابعها: ألا يبتغي غير رضا الله غاية: “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”(6). “انتهى النقل من كتاب القرضاوي”.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على قول الحق، وألا تأخذهم في الله لومة لائم، والله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على العلماء أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وتوعد من يكتمه بعذاب أليم، فكيف بمن يبينه مشوها ومحرفا، لقد تمادى في الجرأة على الله!

جعل النبي صلى الله عليه وسلم “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”، إن هذه الأمور “البيعة على ألا تأخذ العالم في الله لومة لائم، وأخذ الميثاق على التبيان، وكلمة الحق عند السلطان الجائر”، هي والله العلامات الفاصلة بين العالم الرباني المتبع لهدي الإسلام، وبين العالم الساقط المتبع طريق “بلعم بن باعوراء”..

لهذا فإن الإنسان الواعي لا يخدعه من العالم اسمه أو زيه، بقدر ما يعنيه منه موقفه ومناصرته الحق، كما يقول الشاعر:

إن العمائم سودت أو بيضت……لا تصنع العلماء والفقهاء

كم من رؤوس لا تليق بحملها……وهناك أرؤس تبلغ العلياء

الله ينظر للقلوب وما حوت……. لا ينظر اللفات والأزياء

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأعراف: 175-176. (2) آل عمران 79. (3) الأنعام 164. (4) الأنعام 14. (5) الأنعام 114. (6) الأنعام 162.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين